بقلم دجى داود
كان ضياء الكحلوت، المدير المخضرم لمكتب صحيفة “العربي الجديد” في غزة، وهي صحيفة عربية تمولها قطر وتتخذ من لندن مقراً لها، يغطي تطورات حرب إسرائيل على غزة طيلة شهرين قبل أن يصبح هو نفسه واحداً من أخبارها. ففي 7 ديسمبر/ كانون الأول اعتُقل ضياء وعدد من أفراد عائلته من قبل القوات الإسرائيلية ضمن حملة اعتقالات جماعية وقعت في بيت لاهيا، شمال غزة. قال ضياء الكحلوت إنه خضع للاستجواب بشأن عمله الصحفي، وتعرض لإساءة المعاملة النفسية والبدنية خلال الأيام الثلاثة والثلاثين التي أمضاها في الاحتجاز الإسرائيلي.
يُعد ضياء الكحلوت واحداً من نحو خمسة وعشرين صحفياً فلسطينياً اعتقلتهم إسرائيل [بحسب توثيق لجنة حماية الصحفيين] منذ بدء حملة القصف واسعة النطاق على غزة في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. اتخذ ضياء بعد الإفراج عنه قراراً “لا يُحتمل” بمغادرة قطاع غزة، ووصل إلى مصر التي تحدث منها مع “لجنة حماية الصحفيين” عن تجربته على صعيد تغطية الحرب وعن اعتقاله والبيئة الصحفية في غزة. تم تحرير هذه المقابلة لغايات الوضوح وتجنب الإطالة.
كيف تمكنتَ من تغطية الأخبار في بداية الحرب، أي قبل اعتقالك؟
هذه أول مرة أواجه فيها مشكلات في تغطية الحرب، وكنت قد أعددت بيتي لحالات الطوارئ والحروب، فقمت مثلاً بتركيب نظام للطاقة الشمسية كي أتمكن من العمل بصورة طبيعية في مثل هذه الأوضاع، وكنت أسكن في بيئة آمنة نسبياً في بيت لاهيا. بحلول اليوم الثالث أو الرابع للحرب بدأت أفقد أدواتي الصحفية كالكهرباء والهاتف والحاسوب المحمول وصرت أعتمد بصورة رئيسية على هاتفي المحمول، وقد اضطررنا لشراء شريحة اتصالات إسرائيلية بسعر مرتفع جداً لأن الجميع كان بحاجة إليها. وكانت هذه أول مرة يحدث فيها شيء كهذا في الحرب، ولكني مع ذلك واصلت عملي ليلاً ونهاراً طيلة 61 يوماً بالرغم من الظروف الصعبة – وكان ذلك قبل أن يتم اعتقالي.
عندما بدأَت الحرب كان يوجد عدد كبير من الصحفيين في الشمال، ولكن ما أن حلّ الشهر الثاني للحرب حتى صرتُ واحداً من المصادر المهمة. كنت أصور مقاطع الفيديو وأرسلها للنشر دون مقابل وكنت أساعد الجميع بما في ذلك قنوات كبرى. وكان الناس في غزة متعاونين للغاية لمعرفتهم بأني صحفي، لذا فقد كانوا يعطوني أولويةً في شحن الهاتف كي أتمكن من الاستمرار في التغطية.
أنت تدير فريقاً من الصحفيين، فكيف أثرت الصعوبات التي تتحدث عنها على ذلك؟
زملائي هم أصدقائي أيضاً، إذ تربطنا علاقات شخصية بعد سنوات من العمل والتعاون على صعيد تغطية الأخبار من غزة. ولكن وفي غضون أيام، انقطع اتصالي بهم بشكل شبه تام. ولسوء الحظ، لم أعد أستطيع القيام بدوري المعتاد في تعيين المهام وتحرير القصص والتحقق من المواد [واضطررت لترك هذه المهمة لزملائي في المكاتب الإقليمية]. استطعنا مواصلة عملنا ولكن بصعوبة كبيرة رغم عدم وجود أي مشكلة في العثور على موضوعات صحفية. فإذا كنت اليوم صحفياً في غزة، بوسعك العثور على قصص صحفية في كل مكان تذهب إليه وأن تروي ألف قصة بألف طريقة.
بعد نحو شهرين من تغطية تطورات الحرب، اعتقلتك إسرائيل مدة 33 يوماً. فما الذي حدث؟
في حوالي الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً من يوم 7 ديسمبر/ كانون الأول 2023، أمر الجيش الإسرائيلي جميع الرجال في منطقتنا بالنزول من بيوتهم والتجمع في ساحة قريبة. قاموا بتجريدنا من جميع ملابسنا ما عدا الملابس الداخلية وتركونا في البرد معصوبي الأعين وأيدينا مقيدة خلف ظهورنا. ومع ذلك لم نكن خائفين على الإطلاق؛ فنحن مدنيون تم أخذنا من منازلنا.
أبقونا في قاعدة زيكيم [في إسرائيل] وهناك تم استجوابنا حيث طرحوا عليّ أسئلة بخصوص عملي الصحفي. وقد تم استجوابي مرتين، واحدة من قبل الجيش الإسرائيلي والثانية من قبل جهاز الشاباك، وفي هذه الأخيرة، سألني المحقق عن تقرير نشرته صحيفة “العربي الجديد” في عام 2018 يتعلق بفشل عملية قامت بها وحدة إسرائيلية في غزة [نشرت صحيفة “العربي الجديد” عدة تقارير صحافية عن العملية الإسرائيلية التي جرى إحباطها].
وضع الجنود عُصابة على عينيّ وأجبروني على الجلوس في وضعية القرفصاء فوق تل رملي فيما عمد جندي كان يقف خلفي إلى ضربي بشكل مستمر. وخلال عملية الاستجواب، سألوني كذلك عن سبب تواصلي مع قيادات في حماس، فأجبت بأنني أتحدث مع شخصيات مختلفة في إطار قيامي بعملي حيث أطلب منهم الإدلاء بتصريحات للنشر. وكان ردهم “أنت إرهابي، أنت ابن كلب”، وأخذوا يسخرون مني ويتنمرون عليّ ثم وضعوا شريطاً لاصقاً على فمي لأني كنت أجادلهم.
وبعد نحو 12 ساعة، تم ترحيلنا بواسطة باص إلى قاعدة “سدي تيمان” العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي. ومكثت في مركز الاعتقال هذا متنقلاً بين عدة “بركسات” مدة 33 يوماً حيث أُعطيت الرقم 059889. وبالطبع، لم يكن أحد ينادينا بأسمائنا، بل كان لكل منا رقمه الذي كان يُنادى عليه بالعبرية التي لا نجيدها.
وفي كل يوم من أيام الاعتقال، كان الجنود يفصلوننا عن بعضنا وينقِّلونا من “بركس” إلى آخر. وكان الطعام يتكون من خبز متعفن. وقد أمضيت معظم الوقت جالساً على ركبتي في وضعية القرفصاء، مما تسبب لي بالتهابات وألم شديد. عندما اعُتقلت كان وزني 130 كيلوغراماً وخسرت 45 كيلوغراماً من وزني أثناء الاحتجاز.
خلال فترة اعتقالي، تم استجوابي ثلاث مرات بالطريقة ذاتها مع التركيز على [عملي مع] صحيفة “العربي الجديد” وقناة “الجزيرة” [التي لم أعمل بها] بما في ذلك أسئلة حول سبب تواصلي مع قيادات فلسطينية في غزة، وحول مصادري التي كنت أعتمد عليها في إعداد تقاريري الصحفية المنشورة في الصحيفة. وأخبرتهم أني صحفي معروف وأن القيادات تقوم بإرسال تقارير لنا لنقوم بنشرها وأننا لم نكن ننشر كل شيء نستلمه ولكن فقط ما كنا نستطيع التحقق منه.
وقد خضعت للتعذيب اليومي بأسلوب “الشبْح” وهي طريقة تنطوي على تقييد اليدين باتجاه الأعلى أو خلف الظهر مع تعصيب العينين، بالإضافة إلى التعذيب النفسي والجسدي. وحتى الذهاب إلى الحمام كان وفقاً لجدول زمني يضعونه هم.
بعد عشرين يوماً من اعتقالي، جيء بمُعتقل جديد حيث أخبرني بالبيانات التي صدرت بخصوصي [من قبل مؤسستي الإعلامية ومن جماعات حقوقية] – وقد علمت أن تلك التصريحات صدرت في خلال الأيام التي تعرّضتُ فيها للتعذيب.
وفي اليوم الثاني والثلاثين من اعتقالي، جاء آمر السجن ومسؤولون من السجن وضباط من الشاباك [جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي] ومعهم سجناء من سجن يقع في النقب [جنوب إسرائيل]. وبدأوا ينادون على أرقام بعض السجناء، وكان آخر اسم –أو بالأحرى آخر رقم– في القائمة هو رقمي. ثم أعطونا دواءً يساعد على الارتخاء الجسدي للتخلص من الإجهاد الناجم عن الاعتقال، وإذا وجدوا أن أحداً ممن نودي عليهم مصاب أو مريض امتنعوا عن الإفراج عنه.
في اليوم الثالث والثلاثين، تم نقلنا بواسطة باص تعمّد سائقه التجول بنا في المنطقة قبل أن يقوموا برفع العُصابات عن أعيننا وفك القيود، ووجدت نفسي أمام معبر كرم أبو سالم [المؤدي إلى غزة].
لقد ترك الاعتقال آثاره النفسية والصحية عليَّ وأهمها معاناتي من مشكلات في البصر، إذ لم أعد أرى جيداً بسبب بقائي معصوب العينين 33 يوماً متتالية ليلاً نهاراً علماً بأن نظري كان ممتازاً قبل اعتقالي. وكنا نتعرض للضرب “والشبْح” أثناء الاعتقال إذا ظهر أي جزء من أعيننا. وأعاني حالياً من التهاب حاد في الصدر والتهاب حاد في الفقرات مما يسبب لي آلاماً في الساقين، هذا بالإضافة إلى سوء التغذية وقلة النوم. وقبل مغادرتي لغزة عانيت من تشققات في الجلد نجمت عن ظروف الاعتقال، ومن آلام شديدة فيها. وبالإضافة إلى الرضوض التي لا تزال ظاهرة على جسدي، ما زلتُ لا أستطيع النوم أو الاستراحة بشكل طبيعي منذ الإفراج عني. كما أني أتصرف وكأني ما زلت في السجن، وحتى نومي تأثر بتجربة السجن وبما عانيت منه؛ إذ أنام في الوضعية التي أُجبرت عليها أثناء الاعتقال.
وكنت قد مكثت، بعد الإفراج عني، في خيمة للصحفيين [منطقة مخصصة للصحافة] في مدينة رفح [الواقعة جنوب غزة] مدة شهرين، حيث حاولت العودة إلى مزاولة العمل والتأكد من أن عائلتي بخير، ولكن انقطاعات التيار الكهربائي وافتقاري للأجهزة الصحفية حال دون ذلك. وكنت آمل في العودة إلى الشمال للالتحاق بعائلتي ولكني مع مرور الأيام فقدت الأمل في انتهاء الحرب وقررت المغادرة إلى مصر، وغادرت بالفعل في 10 مارس/ آذار ولحقت بي العائلة في 13 مارس/ آذار وكانوا متعبين ومرضى عند وصولهم، وبدأَت عندها رحلتنا مع العلاج.
[ملاحظة المحرر: لم تتمكن لجنة حماية الصحفيين من التحقق بصورة مستقلة من وصف ضياء الكحلوت للتعذيب الذي تعرّض له، ولكنه ينسجم مع توصيفات جماعات حقوق الإنسان للمعاملة التي يتعرض لها بعض الفلسطينيين عند احتجازهم من قبل إسرائيل. وقد تواصل المقر الرئيسي للجنة حماية الصحفيين في نيويورك مع المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي في أمريكا الشمالية للاستعلام عن شهادة الكحلوت بالتعرض لسوء المعاملة، وقال المتحدث الرسمي في رده عبر البريد الإلكتروني إن “الأشخاص الذين يجري اعتقالهم يُعاملون وفقاً للقانون الدولي. وإن الجيش الإسرائيلي لم، ولن، يستهدف الصحفيين أبداً. وتنص بروتوكولات الجيش على معاملة المعتقلين بما يحفظ كرامتهم. وسوف يتم النظر في الحوادث التي لا تُراعى فيها القواعد العامة”. كذلك، بعث مكتب لجنة حماية الصحفيين في نيويورك برسالة عبر البريد الإلكتروني إلى جهاز الشاباك بشأن استجواب ضياء الكحلوت حول مقالة نُشرت عام 2018، ولكنه لم يتلقَّ أي رد فوري].
هل عدت إلى عملك؟ وما هي خططك؟
لست قادراً، من الناحية العقلية، على استئناف عملي، إذ ما زلت أتابع العلاج وتناول الدواء ومراقبة حالتي الصحية والحالة الصحية لأفراد عائلتي. أنا لا أملك حتى أدوات العمل الأساسية من قبيل جهاز حاسوب محمول.
نحن حالياً بانتظار الانتهاء من إجراءات الحصول على تأشيرات السفر إلى [العاصمة القطرية] الدوحة. لكن الدوحة ستكون أيضاً مكاناً لا نعرفه وأتمنى أن أتمكن وعائلتي من التأقلم مع الوضع الجديد. لقد دعمتني مؤسستي الإعلامية، ولكني أشعر بقلق مستمر بسبب الأوضاع في غزة وقلقي على بقية أفراد عائلتي في بيت لاهيا، وأشعر بالتوتر والتعب.
لقد فقدتُ ممتلكاتي؛ ودُمر منزلي ومنزل عائلتي، وفقدت سيارتي الجديدة وقطعة الأرض الصغيرة التي أملكها. فجأة خسرنا كل شي.
تعرضت سيارة ضياء الكحلوت لأضرار، مما أعاق عمله الصحفي. (الصورة لضياء الكحلوت)
كيف تقارن تغطية هذه الحرب بتغطية ما سبقها من حروب؟
منذ اليوم الأول أصبح من المستحيل علينا تغطية الحرب بصورة شاملة. لقد فقدنا المصادر الرئيسية لمعلوماتنا [فقد أعاق قطع الكهرباء والاتصالات عملية التغطية الإخبارية وأصبح الوصول إلى المصادر أمراً أصعب] ولا يمكن للمرء أن يوثق كل هذه الدمار. وما يؤسف له أن هناك افتقار كبير للمعلومات وعجز عن الإحاطة بهذا الحجم من القصف والهجمات على غزة. لقد منع ذلك الصحفيين من القيام بعملهم بشكل كامل.
ضاعت عشرات القصص الصحفية المهمة عن الضحايا وسط عمليات القتل والجنون. لا يرى العالم الخارجي، في الحقيقة، سوى 10% من الواقع الفعلي في غزة، وما نراه يفوق ما يمكن تخيله. ينبغي علينا كصحفيين أن نعتذر عن عدم تمكننا من تغطية كل شيء. كنت في السابق أستطيع الحصول على كافة الأخبار، ولكن ثمة قصص صحفية كثيرة حالياً لا تحظى بأي تغطية.
كان غياب التعاطف صادماً بالنظر إلى حجم الإبادة الجماعية. أعمل في الصحافة منذ عام 2004 ولم أرَ على الإطلاق هذا المستوى من التدمير في أية حرب قمت بتغطيتها، علماً بأني غطيت جميع الحروب التي شُنت على غزة منذ ذلك الوقت. في الماضي، كنا نتعامل مع قتل خمسة أشخاص على أنه مجزرة، ولكن كلمة مجزرة في غزة اليوم تعني [قتل] 100 أو أكثر. لقد أصبح الناس أرقاماً ونحن لم نعد نعرف تفاصيل قصصهم، هذا إذا علمنا أصلاً بمقتلهم.
مما يؤسف له أن غياب الإنترنت وعدم وجود بدائل سريعة عنها يشكل معضلة حقيقية، وأن الصحفي الذي يفقد معداته لا يستطيع استبدالها. لقد فُقدت جميع المكاتب الصحفية تقريباً وباتت المستشفيات مقرات رئيسية للصحفيين.
لم يجد الصحفيون في غزة أي احترام. وفي خضم كل هذه المصاعب في تغطية الأحداث والإبلاغ عن وقوعها، كان هناك تحد آخر: محاولة البقاء على قيد الحياة، وتأمين الطعام والشراب، وحماية العائلة. إن التحرك ولو لشبر واحد داخل غزة صار ضرباً من الجنون.
لم يتمكن الصحفيون الفلسطينيون من نقل الصورة بالكامل بسبب القصف الكثيف وقطع الاتصالات الذي حال دون خروج القصص الصحفية إلى العالم الخارجي، وما تمت مشاركته ليس سوى جانب بسيط من الأنباء العاجلة، أما القصص الأعمق فقد ضاعت أو أُسكتت بسبب استهداف الصحفيين، فلم يكن هناك أي أمن، فيما كانت المستلزمات الأساسية، كالكهرباء والإنترنت وأدوات العمل كالحواسيب المحمولة غير متوفرة.
لقد عانى أهالي غزة والصحفيون من الظلم في هذه التغطية التي زادها سوءاً غياب الصحفيين الأجانب الذين كان بمقدورهم إكمال القصة.