الطريق إلى العدالة

3. أين يترعرع الإفلات من العقاب

; بلغت أجواء الإفلات من العقاب ذروة مأساوية يوم 23 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2009، عندما نصب مسلحون كميناً لموكب من السيارات يرافق المرشح السياسي إسماعيل “توت” منغوداداتو بينما كان على وشك التقدم بأوراقه ترشحه لمنصب حاكم إقليم في الفلبين. قام المهاجمون بقتل 58 شخصاً كان من بينهم 30 صحفياً واثنين من العاملين في الإعلام، وهي أكبر حصيلة قتلى تقع في صفوف الصحفيين في حدث واحد منذ أن بدأت لجنة حماية الصحفيين بمتابعة هذا الشأن في عام 1992.

وقد أثارت عملية القتل الجماعي في ضواحي بلدة أمباتوان غضباً عارماً، غير أنه لم يُدن أي شخص بلعب أي دور في تلك المجزرة، ولم يشكل ذلك مفاجأة إلا فيما ندر. ورأى كثيرون في الهجوم نتيجة طبيعية للتركيبة القائمة منذ أمد بعيد في الفلبين والمؤلفة من مراكز قوى وجماعات مسلحة وفساد وتراخي حكومي وضعف إنفاذ القانون. ولا تبدو على دورة العنف والإفلات من العقاب أية علامات ضعف.

لقد قُتل أكثر من 50 صحفياً في الفلبين بسبب عملهم ما بين عام 2004 و2013 دون أن تأخذ العدالة مجراها. كما وقع مئات من المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والسياسيين ضحية القتل خارج نطاق القضاء، حيث تم ذلك في معظم الأحيان دون أن يواجه القتلة نتائج ما أقدموا عليه. والحقيقة أن الفلبين ليست وحدها في هذا المضمار.

نادراً ما تكون جرائم قتل الصحفيين أحداثاً معزولةً، وهي ليست في العادة أفعالاً عفويةً يُقدم عليها شخص متهور أغضبه شيء قرأه في الصحيفة. بل هي في غالبية الأحوال أفعال متعمدة-مأمور بها ومدفوعة الأجر ومنظمة. وتندرج هذه الأفعال في نمطين عامين: يتمثل الأول في ممارسة الترهيب ضد الذين يكشفون الفساد أو يفضحون سوء التصرف السياسي والإداري أو يكتبون تقارير حول الجريمة؛ أما الثاني فيجري في الأحوال التي تعيق فيها أعمال العنف اليومية على يد الجماعات المسلحة أو عصابات الجريمة المنظمة مجرى العدالة. إن تمكين هذين النمطين يعني ببساطة خلق الواقع الذي يغدو فيه الإفلات بجريمة قتل الصحفي عملاً يسيراً. وبحسب البحوث التي أجرتها لجنة حماية الصحفيين، لا يواجه قتلة الصحفيين تبعات جريمتهم في حوالي 9 من أصل 10 حالات.

أندال أمبتوان جونيور (وسط) أثناء نقله إلى المحكمة بتهم قيادة هجوم استهدف 58 شخصاً من بينهم 32 صحافياً وعاملاً في الوسط الإعلامي، في مذبحة مغينداناو عام 2009. (رويترز/ شيرلي رافيلو)
أندال أمبتوان جونيور (وسط) أثناء نقله إلى المحكمة بتهم قيادة هجوم استهدف 58 شخصاً من بينهم 32 صحافياً وعاملاً في الوسط الإعلامي، في مذبحة مغينداناو عام 2009. (رويترز/ شيرلي رافيلو)

تترعرع ثقافة الإفلات من العقاب بفعل عوامل ذاتية؛ فحيثما تخفق العدالة يتكرر العنف في أغلب الأحوال، وذلك طبقاً للاتجاهات التي وثقتها لجنة حماية الصحفيين على امتداد السنوات السبعة الماضية في المؤشر العالمي للإفلات من العقاب الذي تصدره سنويا. يوجد في العراق، على سبيل المثال، أكبر عدد من جرائم القتل التي لم يُكشف عن مرتكبيها، وقد سُجلت فيه تسع جرائم قتل استهدفت صحفيين خلال عام 2013. وشهدت روسيا مقتل صحفيين آخرين العام الماضي مما يرفع عدد جرائم القتل ذات الصلة بالعمل الصحفي مع إفلات تام من العقاب منذ عام 2004 إلى 14 جريمة. وفي بنغلاديش والبرازيل والهند، قُتل ما مجموعه سبع صحفيين خلال عام 2013. جميع البلدان التي وقعت فيها جرائم قتل صحفيين في عام 2013، إلا بلداً واحداً، تمتلك سجلاً من الإفلات من العقاب فيما لا يقل عن أربع جرائم قتل سابقة لذلك. وفي اجتماع لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة انعقد في وقت سابق من العام الجاري، قالت المفوضة العليا لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، نافي بيلاي، إن “كل عمل من أعمال العنف يُرتكب ضد صحفي ويمرُّ دون تحقيق أو عقاب هو بمثابة دعوة مفتوحة لمزيد من العنف”.

ثمة عدة طرق يتكرس فيها الإفلات من العقاب على نطاق واسع ودائم عندما يتعلق الأمر بالاعتداء على الصحفيين. ففي بعض الحالات، ينجم ذلك عن ضعف الإرادة السياسية، فيما يكون النزاع أو ضعف دوائر إنفاذ القانون في حالات أخرى هو ما يضع العدالة في موقف لا تحسد عليه. وفي أغلب الأحوال تتضافر كل هذه العوامل معاً. إن دراسة البيئات التي يترعرع فيها الإفلات من العقاب هو الخطوة الأولى نحو القضاء عليه.

كثيراً ما تشكو الحكومات من أن مسالة العدالة تقع خارج نطاق سيطرتها وتجادل بأن الإفلات من العقاب في جرائم قتل الصحفيين ليس سوى قمة جبل الجليد وأن أجهزة الدولة ترزح تحت وطأة مشكلات هائلة ابتداءً من استشراء الفساد إلى النزاع المستمر، وأن هذه هي القضايا الحقيقية. صحيح أن البيئة غير الآمنة أو التي يختل فيها عمل الأجهزة تغذي الإفلات من العقاب، ولكن اللجنة أظهرت مراراً أن انعدام الإرادة السياسية لملاحقة الجناة قضائياً هو أكثر العوامل شيوعاً وراء الأرقام المفزعة لعدد القضايا التي تبقى عالقة بلا حل. وفي أغلب الأحيان، تبدي الدول عدم رغبتها في إعمال العدالة -وليس عجزها عن ذلك- عندما يتعلق الأمر بقتل الصحفيين. وبهذا الخصوص يقول فرانك لا رو، المقرر الخاص السابق بالأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير إن “الإرادة السياسية هي أهم عنصر من العناصر”.

لقد وثّقت لجنة حماية الصحفيين القضايا -واحدة تلو الأخرى- التي مُنيت بالفشل في التقدم نحو تحقيق العدالة على الرغم من وجود الأدلة التي تشير بأصابع الاتهام إلى المذنبين المحتملين. وفي قضايا أخرى، أخفق مسؤولو إنفاذ القانون في متابعة الخيوط المؤدية إلى فك رموز القضية أو مقابلة الشهود أو جمع أدلة كافية أو إجراء محاكمات كاملة. في عملية اغتيال لاسانثا ويكراماتونغا، رئيس تحرير إحدى أبرز الصحف السريلانكية، عام 2009، ضربه مهاجموه بقضبان فولاذية وعصي خشبية في شارع مزدحم على مرأى من الجنود في إحدى القواعد الجوية. وحسب أرملة الصحفي القتيل سونالي سمراسينغي، لم تكترث الشرطة كثيراً لأقوال الشهود وأعلنت أن مقتل ويكراماتونغا كان بسبب إطلاق نار بما يتناقض مع التقارير الطبية التي لم تأت على ذكر أي جروح بطلقات نارية. هاتان مجرد حالتان فقط من بين العديد من الشكاوى والتساؤلات التي أُثيرت في هذا التحقيق الذي مرت ذكراه السنوية الخامسة دون أن تجرى أية محاكمة، رغم التعهدات التي قطعها الرئيس ماهيندا رجاباكسا للكشف عن الجناة في هذه القضية.

صحفي يحمل صورة الصحفي السريلانكي دارميراتنام سيفارام في تظاهرة عام 2013. وكان سيفارام قد اختُطف في أبريل/ نيسان من عام 2005 قبل يوم واحد من العثور على جثته ميتاً. (رويترز/ دينوكا لياناواتي)
صحفي يحمل صورة الصحفي السريلانكي دارميراتنام سيفارام في تظاهرة عام 2013. وكان سيفارام قد اختُطف في أبريل/ نيسان من عام 2005 قبل يوم واحد من العثور على جثته ميتاً. (رويترز/ دينوكا لياناواتي)

تشير الأدلة في هذه القضية وعلى نحو متكرر في غيرها من القضايا أن الجناة مسؤولين كبار من داخل هيكل السلطة في البلاد. تظهر التحليلات التي تجريها لجنة حماية الصحفيين على بيانات القضايا منذ عام 1992 أن جهات فاعلة في الدولة أو مسؤولين حكوميين أو عسكريين يشكلون ما تزيد نسبته عن 30 في المائة من المشتبه في أنهم المسؤولون عن جرائم قتل الصحفيين. أما الجماعات السياسية أو الأشخاص الذين يتمتعون بنفوذ اقتصادي وسياسي قوي، فهم القتلة المشتبه بهم في المئات من القضايا الأخرى. ومن هنا فإنه من غير المفاجئ، في ظل هذا الواقع، أن يُقضى على العدالة في مهدها في أغلب الأحيان.

يقول غيتا سيشو، استشاري رئاسة التحرير في منظمة ‘ذي هووت’ لمراقبة الإعلام في الهند التي شهدت مقتل سبعة صحفيين خلال العقد الماضي مع إفلات المجرمين التام من العقاب، إن “الصحفيين قد يتحولون إلى ضحايا للثارات السياسية أو إلى هدف للساسة. كما قد يكون للساسة على المستوى المحلي مصالح تجارية يكتب عنها الصحفيون أو يغطون شؤونها”. وأضاف بأن “أعضاء الأحزاب السياسية الذين يستهدفون الصحفيين يحظون بحماية من أحزابهم وبوسعهم ممارسة تأثير كبير على الإدارة أو الشرطة المحلية كي تقوم بتأخير التحقيق أو عرقلته”.

وفي غامبيا، لم تقم السلطات هناك إثر مقتل الصحفي ديدا هايدرا -وهو محرر وكاتب عمود معروف بانتقاداته للرئيس يحيى جامح قُتل عام 2004- حتى بمقابلة الشاهدين الرئيسيين على الأقل اللذين كانا برفقه هايدرا وأُصيبا بجروح في الهجوم، ولم تجر أيضاً اختبارات المقذوفات – وهي أخطاء أقرت بها مؤخراً المحكمة الإقليمية التابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا. فقد ارتأت المحكمة في يونيو/ حزيران 2014 أن غامبيا لم تجر أي تحقيق ذي مغزى في جريمة قتل هايدرا، والسبب عائد جزئياً إلى أن دائرة الاستخبارات الوطنية هي التي تولت التحقيق -علماً بأنها من المشتبه بهم. وتساءل روبيرت سكيلبيك، مدير شؤون التقاضي في مبادرة العدالة المنبثقة عن معهد المجتمع المفتوح والذي عمل مع المحامين على رفع القضية أمام المحكمة الإقليمية، قائلاً “كيف يمكن لدائرة الاستخبارات الوطنية أن تجري تحقيقاً فيما هي أحد المشتبه بهم؟”.

أما على مستوى العالم، فهناك فشل شبه تام في الملاحقة القضائية لمن يصدرون الأوامر بتنفيذ الجرائم ضد الصحفيين؛ إذ لم يتم تحقيق العدالة كاملة إلا في 2 بالمائة فقط من قضايا قتل الصحفيين بسبب أعمالهم في الفترة من 2004 وحتى 2013. وفي معظم القضايا، لم يتم تحقيق العدالة بأي شكل من الأشكال، أو أن الإدانة كانت من نصيب الشركاء في الجريمة ممن هم من مستويات متدنية أو الذين ضغطوا على الزناد وليس العقول المدبرة. ففي المحاكمة البارزة التي نظرت في قضية مقتل الصحفية الروسية آنا بوليتيكوفسكايا، كان حتى مجرد ذكر اسم العقل المدبر المشتبه به ممنوعاً داخل قاعة المحكمة، كما أن المحكمة أمرت بجلسات مغلقة للاستماع إلى مشتبه به آخر من مستوى عالٍ ربما يكون قد كشف عن هويته.

من جانب آخر، كانت إدانة قاتل الصحفي الفلبيني الإذاعي الشهير جيراردو أورتيغا نصراً للعدالة. لكنها كانت أيضاً بمثابة تذكير قاسٍ بأنه لا يزال يتعين القبض على الأخوين المشتبه بهما، جويل رييس وماريو رييس وهما سياسيان محليان متنفذان كان أروتيغا قد اتهمها بالفساد، وذلك على الرغم من شهادة القاتل المدان التي تثبت تورطهما. وفي بيان يردد صدى مشاعر العشرات من أقرباء الصحفيين الآخرين الذين ذهبوا ضحية للقتل، ناشدت ميكايلا أورتيغا، ابنة جيراردو أروتيغا، السلطات مواصلة تطبيق العدالة بحق أولئك الذين يملكون “السلطة والمال والدافع لقتل والدي”.

يجسد هذا النصر الجزئي الذي أحرزته عائلة أروتيغا النصر الذي أُحرز في 10 قضايا أخرى تحقق فيها قدر من العدالة. وكانت جميع المحاكمات الناجحة تقريباً نتيجة للضغط الدولي والمحلي الهائل والاهتمام الإعلامي والإصرار العنيد من قبل أفراد أسر الضحايا والتحقيقات الموازية التي أجراها زملاء المجني عليهم أو التحديات القانونية من قبل منظمات المجتمع المدني؛ فالدول تستجيب إذا ما مورس عليها الضغط من جميع الجهات، مما يثبت أنه حيثما وجدت الإرادة السياسية فثمة سبيل إلى العدالة.

إذا كان غياب الإرادة السياسية هو العدو الأول للعدالة، فإن النزاع لا يحتل مركزاً أقل أهمية بكثير من ذلك. إذ أن النزاعات على اختلاف أنواعها – صراعات طائفية أو وحالات التمرد السياسي أو القتال بحسب تعريفات القانون الدولي- تمثل الخلفية التي يستند إليها بعض من أشد بيئات الإفلات من العقاب ترسخاً. يتعرض الصحفيون في هذه البيئات إلى مخاطر بدنية هائلة؛ فكثير منهم يُصاب أو يُقتل في تبادل إطلاق النار أو في عمل إرهابي أثناء قيامهم بأعمالهم اليومية. حتى في خضم هذه الأخطار تظل جرائم القتل التي تستهدف الصحفيين هي السبب الأول في مقتلهم. وكان أكثر من 95 بالمائة من أولئك الذين تم استهدافهم هم من المراسلين المحليين ومعظمهم ممن كان يغطي أخبار السياسة والفساد والحرب والجريمة وقت وقوع جرائم قتلهم.

احتل العراق والصومال على امتداد السنوات الخمس الماضية المركزين الأول والثاني على مؤشر لجنة حماية الصحفيين للإفلات من العقاب بمجموع مشترك مقداره 127 قضية قتل صحفيين، أي أكثر من ضعف عدد الذين قُتلوا في تبادل إطلاق النار والمهمات الخطرة. أما سوريا، وهي واحدة من البلدان القليلة التي يفوق عدد الصحفيين الذين قُتلوا فيها خلال تبادل إطلاق النار عدد المستهدفين منهم بجرائم القتل، فتظهر عليها علامات اللحاق برَكب الإفلات من العقاب؛ فقد انضمت سوريا لمؤشر لجنة حماية الصحفيين العالمي للإفلات من العقاب لأول مرة عام 2014 وفي جعبتها سبع قضايا قتل استهدف صحفيين – وهو رقم تزايد مع عمليات قطع الرأس الصادمة للصحفيين الأمريكيين المستقلين جيمس فولي وستيفن سوتولوف على يد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية. إن معدل الإفلات من العقاب لهذه البلدان الثلاثة مجتمعة هو 99 بالمائة.

أغلب هذه الهجمات شنتها جماعات مسلحة طائفية، إذ يُعتقد أن تنظيم الدولة الإسلامية المنشق عن القاعدة وغيره من الجماعات السنية المسلحة مسؤولة عن بضعة جرائم قتل من بين الجرائم التسعة التي استهدفت صحفيين في العراق العام الماضي، حسب البحث الذي أجرته لجنة حماية الصحفيين. وخلال سنوات سابقة كانت قد شهدت عنفاً بوتيرة عالية هناك، كان الصحفيون العراقيون هدفاً للجماعات السنية والشيعية على حد سواء. وفي الصومال، هددت حركة الشباب وقتلت صحفيين طيلة سنوات بسبب تغطيتهم لأنشطة الجماعة. وهنا تُثار مسالة مصاحبة لهذه الحقيقة، وهي: عندما تكون الدول في حالة حرب مع مرتكبي العنف المضاد للصحافة، هل يمكن تحميل الدولة مسؤولية عدم ملاحقتهم قضائياً؟

يرى البعض أن الجواب هو: لا. يقول عبد الرحمن عمر عثمان، وهو مستشار إعلامي واستراتيجي رفيع للحكومة الصومالية، إن “الصومال يعيش نزاعاً منذ عام 1991 كما أنه لا يزال يخوض حرباً مع المتطرفين. ويواجه الصومال تحديات كالافتقار إلى الموارد والافتقار إلى المؤسسات العاملة والافتقار إلى الأمن لأن حركة الشباب تقاتل الحكومة، والافتقار إلى الحوكمة الرشيدة، وغير ذلك الكثير”.

إلا أن الزملاء في الإعلام محبطون بسبب ما يرونه امتناعاً تاماً عن فعل شيء. وقال أبوكار البدري، مدير شركة بدري للإنتاج الإعلامي الصومالية، إن “الشرطة لا تفعل شيئاً بعد مقتل الصحفي”، وأضاف أنه “لو أن الحكومة كانت تريد محاكمة قتلة الصحفيين لقامت بتنفيذ جميع التزاماتها. فقد تعهدت بتشكيل فريق عمل يقوم بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين، لكن ذلك لم يفلح. وتعهدت بالتحقيق وجلب الجناة إلى العدالة، إلا أنه لم يجر التحقيق في أية قضية حتى الآن”.

هذا التواني عن فعل أي شيء يصبح مطبقاً تماماً بشكل خاص في القضايا التي تشير فيها أصابع الاتهام إلى مسؤولين في الحكومة وإلى جناة آخرين غير محصنين بالقوة والهوية المجهولة اللتين توفرهما الجماعات المسلحة. ففي مدينة كركوك شمال العراق، مثلاً، أطلق مهاجمون النار على الكاتب المستقل سوران ماما حاما عام 2008 بعد فترة وجيزة من فضحه لاشتراك الشرطة في تجارة البغاء المحلية. وعلى الرغم من التعهدات التي قطعتها السلطات المحلية للجنة حماية الصحفيين بإيلاء القضية الاهتمام الكامل، إلا أنه لم يتم الإبلاغ عن توقيف أي شخص.

أحد المتظاهرين احتجاجاً على مقتل الصحفي زرادشت عثمان الذي كان في الثالثة والعشرين من العمر عند اختطافه وقتله عام 2010. ولم يتم جلب قاتليه إلى العدالة حتى الآن. (يوتيوب/ فيلم براد)
أحد المتظاهرين احتجاجاً على مقتل الصحفي زرادشت عثمان الذي كان في الثالثة والعشرين من العمر عند اختطافه وقتله عام 2010. ولم يتم جلب قاتليه إلى العدالة حتى الآن. (يوتيوب/ فيلم براد)

وقد أصدرت لجنة حماية الصحفيين تقريراً حول الإفلات من العقاب في كردستان العراق، وعاينت فيه قضايا أخرى من بينها مقتل زرادشت عثمان، طالب الصحافة الذي اشتُهر على نطاق واسع بمقالاته عن الفساد الذي شمل مسؤولين حكوميين كبار. وكان عثمان قد اختُطف قبل يومين من العثور عليه مقتولاً. ونسبت قوات الأمن الكردستانية الجريمة إلى جماعة تنتسب إلى تنظيم القاعدة، غير أن أقارب عثمان وزملاءه اعتبروا هذه الرواية غير قابلة للتصديق. وألقى خمسة وسبعون صحفياً ومحرراً ومثقفاً كردستانياً باللائمة على الحكومة في مقتله. وقال هؤلاء في بيان صدر عنهم آنذاك “نحن نعتقد أن حكومة إقليم كردستان وقواتها الأمنية هما المسؤول الأول والأخير، وأنه يُفترض فيهما بذل كل جهد من أجل العثور على هذه اليد الآثمة”.

وفي نيجيريا، حيث قُتل خمسة صحفيين وأفلت الفاعلون من العقاب خلال العقد الماضي، يدور سيناريو مشابه- على الرغم من وجود مستويات أقل من العنف فيها. وفي رد فعل على مؤشر لجنة حماية الصحفيين العالمي للإفلات من العقاب لعام 2013، ألقى متحدث رسمي باسم الرئيس غودلك جوناثان باللائمة في مقتل الصحفيين على إطلاق نار من طرف جماعة بوكو حرام المتطرفة. إن بوكو حرام مسؤولة بشكل واضح عن مقتل الكثير من الصحفيين في نيجيريا، إلا أن هناك جرائم قتل لم يجرِ التحقيق فيها كمقتل المحرر بايو أوهو الذي أُطلقت عليه النار عند باب منزله من قبل ستة أشخاص مجهولي الهوية انتقاماً منه -حسب اعتقاد زملائه- عما يكتبه عن السياسة المحلية.

كما أن إرهاب بوكو حرام لا يقدم تفسيراً لسبب عدم إجراء تحقيق كامل في إطلاق النار عام 2006 على الصحفي الحائز على جوائز غودوين أغبروكو الذي وجد مقتولاً في سيارته وقد استقرت رصاصة وحيدة في عنقه، دون أن يتم المساس بأي من مقتنياته الثمينة. وقالت الشرطة في البداية إن العملية تبدو كسطو مسلح، إلا أنها ألمحت فيما بعد إلى أنها قد تكون عملية اغتيال؛ ولم يطرأ أي تطور على هذه القضية منذ ذلك الوقت. وقد مضت ثماني سنوات ولا تزال عائلة أغبروكو تكافح من أجل الحصول على أجوبة. وذكرت ابنته، تيجا أغبروكو أوميسوري للجنة حماية الصحفيين “الأمر برمته كان يلفه عدم اليقين ولم يكن هناك إجراءات خاصة بالتحقيق”، وأضافت “لم يتم فتح أي تحقيق. ولم يتم القيام بأي شيء”.

تعهد الرئيس الفلبيني بنينو أكينو الثالث، في أول خطاب له عن حالة الأمة عام 2011، أن إدارته ستعمل على إنهاء الإفلات من العقاب وإنشاء عهد من “العدالة السريعة”. وقد لقيت كلماته ترحيباً لدى زملاء وأقرباء ضحايا مجزرة مغينداناو التي ارتكبت عام 2009 الذين كانوا يسعون لاستصدار قرار وتعزية بشأن مقتل 58 شخصاً من بينهم 32 إعلامياً. ولكن العدالة بقيت على سرعتها القديمة.

في بداية قضية مغينداناو، قلة قليلة من المراقبين فقط توقعت أن تتم المحاكمة سريعاً. ولكن بوجود 58 ضحية وأكثر من 180 مشتبه به، حتى أكفأ النظم سينوء بعبء إنجاز العدالة بسرعة. ألا أنه مع اقتراب الذكرى السنوية الخامسة لهذه الجريمة الشنعاء دون أن يلوح في الأفق طيف أية إدانات، فإن الخطى البطيئة للعدالة أثارت مخاوف الكثيرين من أن مسيرة العدالة ستطول إلى حد لا يطاق أو أنها ستخضع إلى مساومة خطيرة، أو كليهما.

لقد وصف الرئيس أكينو المحاكمة الخاصة بمجزرة مغينداناو بأنها “اختبار كاشف” للعدالة في الفلبين، باعتبارها فرصة تثبت من خلالها أقدم ديمقراطية في آسيا أن لديها عتبة لا تتخطاها لمستوى الإفلات من العقاب والتي لن تتسامح مع من يتجاوزها. لكن مجريات المحاكمة أبرزت بالمقابل عيوب هذا البلد ومواطن ضعفه.

تعاني البلدان التي سجلت فيها لجنة حماية الصحفيين معدلات مرتفعة من العنف المضاد للصحافة والإفلات من العقاب كالفلبين في الغالب من ضعف في قدرات التحقيق والملاحقة القضائية، أو تكون أنظمتها العدلية واقعة تحت هيمنة الفساد والترهيب العنيف. تعبّر أحداث المذبحة عن هذا النمط من الإفلات من العقاب – التحقيق المليء بالثغرات، والامتيازات لبعض المشتبه بهم في الحبس، وقلة الاستعانة بالشهود وضعف حمايتهم، وأساليب الدفاع في تأجيل القضية- حسب بريما خيسوسا كينساياس، وهي محامية تعمل مع صندوق الحرية للصحفيين الفلبينيين. كما أنها تعمل كمدعي خاص ممثلٍ عن كثير من أسر الضحايا. يُذكر أن النظام العدلي في الفلبين يتيح لمدعين خاصين العمل إلى جانب فريق الإدعاء العام الرسمي.

أما الأدلة التي تم جمعها فيُعتقد على نطاق واسع أنها منقوصة. فقد نفذت المنظمات الصحفية المحلية مهمة لتقصي الحقائق بعد المذبحة على الفور ووجدت أن المنطقة المحيطة بمسرح الجريمة لم يتم عزلها بشريط حاجز. كذلك استخدمت فرق الإنقاذ آليات حفر وتجريف بدلاً من المجرفة اليدوية لسحب الضحايا المدفونين، وهي طريقة ربما تكون قد أتلفت الدليل الطبي الشرعي. ولم يتم جمع المقتنيات الشخصية للضحايا كبطاقات الهاتف الخلوي. وقال خوسيه بابلو بارايبار، المدير التنفيذي لمنظمة ‘إيكيبو بيروانو دي أنتروبولوخيّا فورينسي’ وهي منظمة غير حكومية تتخذ من البيرو مقرا لها تمت دعوتها لمعاينة مسرح الجريمة، إن “القضية ستنهار إذا ما استندت إلى الأدلة المتوفرة”. هذا ولم يتم لحد الآن توقيف العشرات من المشتبه بهم.

وبسبب هذه الثغرات باتت شهادة الشهود مهمة جداً بالنسبة للقضية. لكن، وفي سلسلة من النكسات العنيفة، قُتل ثلاثة شهود مهمين. أحدهم هو إسماعيل أميل إينوغ الذي عثر على جثته مقطعة ومعبأة في كيس. وكان إينوغ، وهو سائق تم استئجار خدماته في اليوم السابق للمجزرة، قد قدم شهادة مباشرة مع التعرف على هوية الكثير من الرجال المسلحين. وقُتل اثنان من أقارب الشهود فيما جُرح ثالث بعد إطلاق النار عليهم عدة مرات. وقد أدى فقدان الشهود إلى وضع برنامج حماية الشهود في الفلبين، الذي يعاني من نقص شديد في الموارد، تحت المجهر. وقالت كينساياس إنه طُلب منها مرافقة أحد الشهود إلى موقع المحاكمة بدلاً من أفراد الحماية الرسمية. وقالت ماري غرافي موراليس، التي كان زوجها وأختها -وكلاهما صحفي- من بين ضحايا أمباتوان، للجنة حماية الصحفيين العام الماضي إنه “عندما يصبح جميع الذين شهدوا على الجريمة أمواتاً أيضاً، ستصبح المحاكمة عديمة النفع. ولن يتم إعمال العدالة”.

أما المتهمون، وكثير منهم أفراد من عليّة القوم من قبيلة أمباتوان المتنفذة والثرية، فيمتلكون موارد كبيرة تمكنهم من إحباط عمل العدالة. وتقول بعض أسر الضحايا، وكثير منها يكابد صعوبة فقدان معيل الأسرة، أنه عُرضت عليهم رشاوى وخضعوا للتهديد. في تلك الأثناء نجح محامو الدفاع عن المتهمين في إطالة أمد القضية لسنوات باستخدام أساليب قانونية مستغلين قوانين المحاكم في الفلبين التي يرى كثيرون أنها بحاجة إلى إصلاح. وفي قضايا أخرى، من أبرزها مقتل الصحفييَن الشهيريَن مارلين إسبيرات وجيراردو أورتيغا اللذين كانا يكشفان أخطاء مؤسسات الدولة للقراء، سمح هذا النوع من المناورة للعقول المدبرة للجرائم بشراء الوقت والفرص وبالتالي العثور على طريقة للتهرب من المحاكمة. أما بالنسبة للشهود وأفراد أسر الضحايا، فإن كل سنة أخرى تُضاف إلى عمر المحكمة هي سنة أُخرى سيعيشونها تحت وطأة الضغط النفسي والمالي أو الخوف.

لكنهم أيضاً يحاذرون من خطر آخر على النقيض من الأول، وهو أن تتصرف الدولة بتسرع زائد. ففي شباط/ فبراير 2014، أبلغ الادعاء المحكمة أنه “لم يعد يميل” إلى تقديم مزيد من الأدلة ضد المتهمين الثمانية والعشرين الذين استدعوا إلى قفص الاتهام، وأنه جاهز لإقامة دعواه ضدهم. من شأن هذا، من ناحية، أن ينقل القضايا ضد هؤلاء المشتبه بهم، بمن فيهم أندال أمباتوان جونيور المتهم بقيادة الهجوم، من جلسات للنظر في مواصلة الإفراج عن المتهمين بالكفالة إلى محاكمة جنائية. لكنه سيعمل، من جهة أخرى، على تقييد نطاق الأدلة المقبولة. وقالت كينساياس “إنني قلقة من أن يكون ما سنحصل عليه من هذا النمط من العدالة السريعة هو عدالة الحل الوسط”.

تساعد الثغرات التي تعتري القانون والنظام الجناة على التملص من العدالة في بلدان أخرى يجري استهداف الصحفيين فيها، ومن بين هذه البلدان باكستان ونيجيريا وهندوراس. وفي المكسيك، لم ينبثق عن الفساد المتفشي بين دوائر إنفاذ القانون والقضاء والنظام السياسي سوى تحقيقات تتسم بأقصى درجات الرتابة في العشرات من القضايا التي قُتل فيها صحفيون أو فقدوا أثناء تغطيتهم للأنشطة الإجرامية لشبكات تهريب المخدرات. كما أن أسلوب اللجوء إلى العنف للتخلص من، أو ترهيب، كل من يقف في طريق الإفلات من العقاب مستمر في المكسيك التي تحتل المركز السابع على مستوى العالم في قضايا قتل الصحفيين التي لا تزال عالقة بلا حل، حسب مؤشر لجنة حماية الصحفيين العالمي للإفلات من العقاب. وفي واحدة من القضايا المحبطة، قتل كل من المحقق الاتحادي الرئيسي وبديله اللذان كانا يعملان على قضية مقتل مراسل شؤون الجريمة المخضرم أماندو رودريغيث كاريَون. وكان مسلحون قد أطلقوا النار على رودريغيث وهو داخل سيارته على مرأى من ابنته البالغة من العمر 8 سنوات في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008.

إن معركة التصدي لهذه المشكلات التي تعاني منها الأجهزة المحلية ليست معركة بسيطة، بل هي معركة وضعت لها استراتيجيات؛ فقد تبنت المكسيك مؤخراً قانوناً يسمح للسلطات الاتحادية بالتحقيق في الهجمات على الصحفيين بدلاً من الشرطة المحلية، التي من المرجح أن تكون شريكاً للجماعات الإجرامية التي تسيطر على المنطقة أو واقعة تحت تأثيرها. وفي الفلبين، تقدمت منظمات مناصرة لحرية التعبير بتوصيات مشتركة لوزارة العدل عام 2010. واشتملت هذه التوصيات على: تعزيز برنامج حماية الشهود، وتشكيل فرق استجابة تتألف من ممثلين عن الحكومة والإعلام والمنظمات غير الحكومية تقوم بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين، وتعديل قوانين المحاكم بحيث، كما جاء على لسان ميليندا كينتوس دي خيسوس مديرة مركز حرية الإعلام والمسؤولية، يتم “إزالة جميع العوالق القديمة قدم الدهر في النظام القضائي والتي يبدو أن وُجدت فقط من أجل صالح المحامين”.

ستستغرق مثل هذه الخطوات وقتاً قبل أن تحدث فرقاً، حتى عند تبنيها وتنفيذها بالكامل. وفي الوقت الحاضر، يجب استدامة حالة اليقظة على المستوى المحلي والدولي بشأن محاكمة مغينداناو، حسب بريما كينساياس التي قالت أيضاً إن “اختفاءها عن ‘شاشة الرادار’ العام يعني الانهزام أمام الإجراءات المطولة التي تعتبر إحدى الخصائص المميزة لثقافة الإفلات من العقاب في الفلبين”.

ستستغرق مثل هذه الخطوات وقتاً قبل أن تحدث فرقاً، حتى عند تبنيها وتنفيذها بالكامل. وفي الوقت الحاضر، يجب استدامة حالة اليقظة على المستوى المحلي والدولي بشأن محاكمة مغينداناو، حسب بريما كينساياس التي قالت أيضاً إن “اختفاءها عن ‘شاشة الرادار’ العام يعني الانهزام أمام الإجراءات المطولة التي تعتبر إحدى الخصائص المميزة لثقافة الإفلات من العقاب في الفلبين”.

قليلة هي البلدان التي توجد فيها مقومات البيئة المواتية للإفلات من العقاب كما هي الحال في باكستان؛ إذ يعاني هذا البلد وإعلامه من حالة عنف مزمنة على يد مقاتلين متطرفين وجماعات سياسية على درجة جيدة من التسلح، هذا بالإضافة إلى المنظمات الإجرامية. تتسم السياسة في باكستان بالاضطراب فيما تعاني مؤسساتها من الضعف. ونظراً لحالة النزاع التاريخي بين الإعلام والحكومة، يمكن للمرء أن يشكك بالإرادة السياسية بكل سهولة. وتقع في باكستان بصورة متكررة اعتداءات موجهة ضد الإعلام تُسفر عن قتلى وجرحى، حيث قُتل ما لا يقل عن 23 صحفياً بين العامين 2004 و2013. ولا تزال باكستان حتى عامنا هذا تمتلك سجلاً تاماً من الإفلات من العقاب في هذه القضايا.

وردت أنباء أوائل شهر مارس/ آذار 2014 أن محكمة مكافحة الإرهاب في كاندكوت أدانت ستة مشتبه بهم في جريمة قتل المذيع التلفزيوني الشهير والي خان بابار. وكان بابار، وهو مذيع أخبار في محطة تلفزيون ‘جيو’ قد اغتيل في طريق عودته من عمله إلى المنزل في كراتشي يوم 13 يناير/ كانون الثاني من عام 2011. وقد حُكم على أربعة رجال بالسجن مدى الحياة، وحُكم غيابياً على اثنين آخرين بالإعدام، ولكن الشرط لم تتمكن من إلقاء القبض عليهما. بيد أن العدالة تبقى أبعد عن الاكتمال. فبالإضافة إلى الشخصين المشتبه فيهما واللذين لا زالا طليقين، لم تتم ملاحقة أي شخص قضائياً بتهمة إصدار الأمر بالقتل. وعلى الرغم من أن هذه القضية تمثل نوعاً من النصر بالنسبة للصحفيين الباكستانيين، إلا أنه نصر يظلله الحزن. وقد علق المدير الإداري لمجموعة جانغ المالكة لتلفزيون ‘جيو’، شاهروخ حسن، قائلاً للجنة حماية الصحفيين أثناء زيارة قامت بها إلى المحطة في مارس/ آذار من هذا العام، “على أية حال، حريٌّ بنا ألا نتلقى التهاني بفقداننا لصحفي”.

ولم يتم الكشف عن الدافع الرئيسي وراء مقتل بابار، غير أن العديد من المشتبه بهم ممن أُدينوا في مقتل خان مرتبطون بحركة قوامي المتحدة، وهو حزب سياسي له نفوذ واسع في كراتشي. وفي تقرير خاص للجنة حماية الصحفيين صدر عام 2013 تناولت فيه الصحفية إليزابيث روبن بالدرس مسألة الإفلات من العقاب في باكستان في الجرائم الموجهة ضد الإعلام الإخباري بما في ذلك هذه القضية، خلصت الصحفية إلى أن أعمال بابار لتلفزيون جيو وضعته على طرفٍ نقيض مع الحزب.

وقد ذهب قتلة بابار كل مذهب من أجل حماية أنفسهم إلى حد يفوق التصور، وكان مسار العدالة دموياً على نحو صادم. ففي السنوات الثلاث التي تفصل بين الجريمة والإدانة تم قتل ما لا يقل عن خمسة أشخاص لهم صلة بالتحقيق في الجريمة والملاحقة القضائية. ومن بين هؤلاء مخبر تم العثور على جثته في كيس خلال أسبوعين من الجريمة، ورجلي شرطة كانا يعملان على القضية، وشقيق قائد الشرطة المحلية ويُحتمل أن يكون قد استهدف كإنذار، وشاهد عيان تم إطلاق النار عليه قبل موعد شهادته. وأجبر مدعيان عامان على الفرار خارج البلاد تحت ضغط التهديد.

وقد اجتذبت هذه القضية عند نقطة معينة اهتمام رئيس الوزراء نواز شريف الذي تولى منصبه بعد انتخابات عامة عام 2013. وذكر وزير الشؤون الداخلية لولاية السند في اجتماع مع لجنة حماية الصحفيين أن رئيس الوزراء شرع في إجراء اتصالات للتعرف على مدى التقدم الذي تم إحرازه على مستوى في القضية. وفي سبتمبر/ أيلول 2013، انتقد رئيس المحكمة العليا آنذاك افتخار محمد تشودري، بقوة دوائر إنفاذ القانون في كراتشي في إحدى جلسات المحكمة وطالبها بتقديم تقرير حول إخفاقاتها في قضية بابار. وفي تلك الأثناء، حافظت محطة تلفزيون جيو، وكانت واحدة من أكبر المحطات شعبية في البلاد آنذاك، على إبقاء الأضواء الإعلامية مسلطة على القضية.

وقد نفذت جماعات حرية الصحافة الباكستانية حملات قوية لنصرة قضية بابار وعشرات القضايا الأخرى لصحفيين قُتلوا أثناء أدائهم لعملهم. كما أن الاهتمام الدولي تصاعد؛ ففي أوائل عام 2013، بدأت الأمم المتحدة بتطبيق خطة العمل المشتركة بين وكالاتها بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب والتي حددت باكستان محوراً لاهتمامها. وتدعو الخطة التي وضعتها منظمة اليونسكو الدول الأعضاء إلى اتخاذ خطوات بغية تحسين عمليات التحقيق والملاحقة القضائية في قضايا قتل الصحفيين وتحسين مستوى السلامة الصحفية، إلى جانب إجراءات أخرى.

كما رفضت أسرة بابار السماح للأمور بالاسترخاء، فقد كلّف شقيقه، مرتضا خان بابار، محامين لمساعدة الادعاء العام، إلا أن اثنين منهم استنكفا تحت وطأة التهديدات، فيما قتل آخر. وقد أنفق الرجل 1.5 مليون روبيه باكستانية (حوالي 15,000 دولار أمريكي)، في بلد لا يزيد معدل الدخل السنوي للفرد عن 3000 دولار إلا قليلا. وتحدث شقيق بابار الذي يخشى هو الآخر على سلامته الشخصية طالما كان هناك بعض المشتبه بهم يتجولون أحرارا، عن أوضاعه قائلاً “لقد تضررت تجارتي، واضطررت لبيع منزلي”.

وقد أدت التماساته والضغط الهائل الذي أحاط بالقضية الصاخبة إلى نقل المحاكمة من كراتشي إلى محكمة مكافحة الإرهاب في شيكاربور، حيث تقصر ذراع الشبكة المتنفذة التي تساند المتهمين ويضعف نفوذها. ومن خصائص محاكم مكافحة الإرهاب أنها سريعة الإجراءات وتوفر بيئة حماية أفضل. من جانب آخر، وافق مجلس إقليم السند على قانون لإنشاء برنامج رسمي لحماية الشهود أواخر عام 2013، رغم أن ذلك يأتي متأخراً بالنسبة لقضية بابار من حيث إمكانية إحداث تأثير مباشر عليها الآن. وقد أرسى قرار هيئة المحلفين الذي تلا ذلك الأسس التي من شأنها أن تمكن باكستان من قلب سجلها في مجال الإفلات من العقاب. وقال مرتضا خان بابار إن “كل من يريد أن يقتل صحفياً سيفكر الآن 10 مرات” قبل أن يفعلها.

تظهر العناصر التي تنطوي عليها هذه الإدانة الاستراتيجيات التي يمكن أن يكون لها تأثيرها في محاربة الإفلات من العقاب. لقد تم في قضايا أخرى اللجوء إلى أسلوب نقل مقر المحاكمة لضمان نزاهة العملية وتأمين حماية أكبر للشهود من أجل الحصول على إدانة للجناة. ففي الفلبين، نجح التماس قدمه صندوق الحرية للصحفيين الفلبينيين، بمساعدة من المدعين الخاصين، في تغيير مكان المحكمة في قضية المتهمين بقتل مارلين غارثيا-إسبيرات وقضايا أخرى انتهت بقرار بإدانة المتهمين الرئيسيين. ودفعت التغطية الإعلامية الواسعة التي قامت بها محطة ‘تي في-غلوبو’ البرازيلية بعد قيام مهربي المخدرات باختطاف وقتل مراسلها تيم لوبز عام 2002، السلطات إلى إقامة العدالة الكاملة، كما أنها حفزت الإعلام البرازيلي على البدء بمعركة محاربة الإفلات من العقاب المتواصلة إلى الآن. كما أن تضحيات أفراد الأسرة وتصميمهم، كمرتضا خان بابار وميروسلافا غونغادزي، هي عنصر أساسي لا بد منه في هذا الصدد. وقبل كل شيء، هناك الدعم من أعلى مستويات القيادة الذي يقيم العدالة أو يقيلها.

زار وفد من لجنة حماية الصحفيين باكستان في مارس/ آذار 2014، أي بُعيد صدور قرار هيئة المحلفين، وأثار الوفد قضية بابار في لقاءات مع رئيس الوزراء شريف ومسؤولين حكوميين آخرين. وقد اتفق الطرفان بشكل كبير على أن الإجراءات القضائية أفرزت دروساً يجدر تعلمها وخلقت فرصة لباكستان كي تخرج من هذا الوضع المنبوذ وأن تصبح نموذجاً في مكافحة الإفلات من العقاب. وقد تعهد شريف خلال تلك اللقاءات بالتزامات بمقدورها -إن نُفذت- أن تحافظ على هذا الزخم، وتشتمل هذه الالتزامات على تأسيس لجنة حكومية-صحفية مشتركة للتصدي للاعتداءات المتواصلة على الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب، وتغيير مقار المحاكمات في قضايا أخرى، وتوسيع برامج حماية الشهود. وقال وزير الإعلام الباكستاني برفيز رشيد أن الحكومة ستقوم بتعيين مدعين عامين خاصين على المستويين المحلي والاتحادي للتحقيق في الجرائم التي تُرتكب بحق الصحفيين.

إن الادعاء بأن باكستان طوت صفحة الإفلات من العقاب وفتحت صفحة جديدة هو ادعاء يجافي الصواب. إذ لم يكن أداء الحكومة حتى الآن جيداً على صعيد هذه الالتزامات. ولم تنتصر العدالة للشهود والمدعين العامين الذين قُتلوا في سياق المحاكمة الخاصة بمقتل بابار وهي لا تزال معطلة في جرائم أخرى قُتل فيها صحفيون. بل إن الوضع قد ساء بعدة أشكال في باكستان منذ صدور قرار المحكمة وزيارة لجنة حماية الصحفيين. فقد وقعت اعتداءات عديدة جديدة ومن بينها إطلاق النار على مذيع الأخبار البارز في جيو نيوز، حامد مير. كما قامت الحكومة بمضايقة المحطات الإعلامية التابعة لمجموعة جانغ بعد تأكيدها أن دائرة الاستخبارات المشتركة الباكستانية هي من نفذ الهجوم على مير. بيد أن قضية بابار تقدم لنا لمحة، ولو قصيرة، عن مستقبل يمكن أن يكون تحقيق العدالة فيه ممكناً حتى في أشد البيئات عداءً للإعلام.

الفصل 4 >>

<< الفصل 2