تهديدات وإهانات وضرب ورقابة: موظفون سابقون في قناة ’أريانا نيوز‘ يروون تفاصيل التحديات الخطيرة خلال سنة من حكم حركة طالبان.
كان شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي بمثابة نقطة الانهيار النهائي بالنسبة للصحفي المخضرم شريف حسنيار؛ وكانت حركة حركة طالبان قد أطاحت بحكومة الرئيس الأفغاني المنتخب أشرف غني قبل نحو شهر من ذلك. حينئذٍ كانت آخر دفعة من الجنود الأمريكيين قد انسحبت في تسابق على الخروج من هناك وسط فوضى عارمة. وانتاب الذعر طاقم العاملين في قناة ’أريانا نيوز‘ التلفزيونية المستقلة فطلب منهم شريف حسنيار -بصفته مديراً للقناة- بادئ الأمر بأن يبقوا تركيزهم منصباً على عملهم. وعن ذلك قال لي حسنيار “كنا نعلم بأن جميع الحريات المدنية ستكون محدودة في ظل نظام حركة طالبان، ولكن على الرغم من ذلك كنت أحاول الحفاظ على الروح المعنوية لزملائنا… وتشجيع طاقم الموظفين على العمل بلا خوف”.
وتعاظم الضغط على نحو مطرد –ضغط مباشر مارسته عناصر حركة طالبان من خلال ضرب بعض الصحفيين أو زيارة منازل صحفيين آخرين كانوا مختبئين، وضغط غير مباشر من إداريي القناة الذين ارتأوا وجوب أن تمارس القناة رقابة ذاتية من باب الاحتياط. وشعر حسنيار نفسه أنه مهدد مباشرة فغادر البلاد إلى باكستان في 1 أيلول/ سبتمبر ومنها أدار العملية الإخبارية عن بُعد متمسكاً باعتقاده أنه من الممكن للمحطة أن تواصل تغطية الأحداث كما في السابق. وعندما اتصل به أحد مديري الأخبار طالباً توجيهاته بشأن كيفية تغطية تظاهرة قامت بها عشرات النساء الأفغانيات، أمره حسنيار ببث الاحتجاج على الهواء مباشرة ودعوة محلل أفغاني لمناقشته أيضاً على الهواء مباشرة.
ولم يمر وقت طويل حتى بدأ هاتف حسنيار الخلوي بالرنين، كان على الجانب الآخر من الخط مسؤولو المخابرات في حركة طالبان الذين اتصلوا به عدة مرات وطالبوه بقطع البث المباشر. ولم يستجب حسنيار لأوامر حركة طالبان فوراً، لكن بعد فترة وجيزة وصل عدد من موظفي مخابرات حركة طالبان الملتحين إلى مكاتب القناة بمركز بيات الإعلامي وهددوا القناة بأنه إن لم يتم قطع البث المباشر للتظاهرة النسائية حالاً فإن مسلحي الحركة سيغلقون بوابات مجمع مركز بيات ويمنعون الموظفين من مغادرته أو الدخول إليه.
بُني مركز بيات الإعلامي المؤلف من خمسة طوابق عام 2014 من قبل رجل الأعمال والمحسن الأفغاني الأمريكي إحسان الله “إحسان” بيات على مسافة تبعد نحو ستة كيلومترات (3.7 ميلاً) عن القصر الرئاسي الأفغاني. ويضم المركز، بالإضافة إلى كونه المقر الرئيسي لعمليات بيات الإعلامية، شركة الاتصالات اللاسلكية الأفغانية التي يمتلك إحسان الله حصة الأكثرية فيها والتي يعمل بها أكثر من 5,000 موظف. في تلك اللحظة أدرك حسنيار أن مصدر رزق عدد كبير من الناس ناهيك عن سلامتهم معرّض للخطر، فأمر موظفيه –تحت ضغوط لم تُمارس عليه من حركة طالبان وحدها، بل ومن كبار الإداريين في مؤسسته أيضاً- بقطع التغطية عن التظاهرة النسائية.
وبعد تلك الحادثة بوقت قصير، أي في 10 أيلول/ سبتمبر، غادر شريف حسنيار قناة أريانا.
وشريف حسنيار هو واحد من عدد كبير من الصحفيين الأفغان الذين تلاشت أحلامهم بسرعة في قيام إعلام حر في أفغانستان. إذ خسر كثير منهم عمله جراء من الانهيار الاقتصادي الذي تسبب به استيلاء حركة طالبان على الحكم، فيما فر آخرون، كحسنيار، إلى خارج البلاد نجاه بأنفسهم من بطش حركة طالبان. وقد ترك حسنيار وراءه بيته ووالديه وعدداً من الإخوة، وتنازل إلى حد كبير عن طموحاته في المشاركة في بناء أفغانستان حرة وديمقراطية.
تخويف ومضايقة
تُعبِّر حكاية شبكة أريانا التي كانت واحدة من الشبكات الأكثر تأثيراً في أفغانستان، عن المتاعب التي تواجهها كافة وسائل الإعلام في أفغانستان في الوقت الراهن. وفي الوقت الذي غادر فيه حسنيار البلاد كان عناصر حركة طالبان –بما في ذلك عناصر من مديرية المخابرات العامة- يشنون حملة رقابة وتهديدات وتخويف واعتقالات وضرب ومضايقة ضد الصحفيين في ’أريانا نيوز‘ وقنوات أخرى غيرها. وبعد مغادرة حسنيار، تسبب القمع المتزايد أيضاً بفرار ثلاثة مدراء على الأقل ممن خلفوه في المنصب في القناة من البلاد.
واليوم، وبعد سنة كاملة من تولي حركة طالبان الحكم، لا تزال عملية جمع الأخبار المهمة في أفغانستان من قبل وسائل الإعلام المحلية صعبة للغاية. إنها عملية تتطلب صبراً وشجاعة – واستعداداً من قبل المراسلين ومذيعي الأخبار لتعريض أنفسهم وعائلاتهم للخطر. وفي مثل هذه الظروف الرهيبة، ربما كان من الصعب على المرء أن يتذكر أن ازدهار الإعلام في أفغانستان شكل واحداً من أعظم قصص النجاح في الفترة التي كانت القوات الأمريكية والدولية تشرف على البلاد. كان آلاف المراسلين الأفغان، بمن فيهم مئات النساء، يعملون في العديد من الصحف ومحطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية التي كانت تتكاثر أعدادها بسرعة. وقد قدم المانحون الدوليون، بمن فيهم حكومة الولايات المتحدة وجيشها، الدعم بعشرات الملايين من الدولارات على هذا الصعيد. فقد تسابقت أعداد ضخمة من الشباب على الالتحاق بالقطاع الإخباري في بلد لم يكن يسمح بالتلفزيون أو التصوير قبل عقدين من الزمن –أبان فترة حكم حركة طالبان الأولى.
قدمت ’أريانا نيوز‘ وشركتها الشقيقة شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون (ATN) البرامج الإخبارية والموسيقية والثقافية وحتى الكوميدية للولايات الأفغانية الأربع والثلاثين. وتأسست هذه الشبكة من قبل مجمع شركات بيات عام 2005، أي بعد نحو أربع سنوات من إطاحة القوات الأمريكية والدولية بحركة طالبان رداً على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة. وقد تركزت برامج شبكة أريانا على البرامج الترفيهية والمسلسلات التلفزيونية وشؤون الساعة وتغطية الأحداث الرياضية. وبحلول عام 2014 –وخلال فترة الأمل والمثالية- قرر إحسان بيات إنشاء محطة تلفزيونية شقيقة مخصصة بالكامل للأخبار.
وفاتح إحسان بيات الصحفي شريف حسنيار، الذي كان حينذاك من كبار إداريي محطة طلوع نيوز، وهي محطة تلفزيونية أخرى مستقلة تبث على مدار الساعة، ليساعده في بلورة الفكرة على أرض الواقع. ويقول حسنيار إن اختيار إحسان بيات وقع عليه لهذا المشروع الجديد قائلاً إنه يهدف إلى تعزيز حرية التعبير وتوطيد أركان النظام الديمقراطي.
وكان حسنيار متحمساً لإدارة المحطة الجديدة فطلب بدوره صلاحيات كاملة – دون تدخل من المالك أو أيٍّ من مديري المؤسسة- كشرط لقبول العرض. ويقول حسنيار إن إحسان بيات وافق على ذلك شريطة ألّا تحابي أريانا أية جماعة سياسية وألّا يسيء مذيعو الأخبار لأي أفغاني، فوافق حسنيار على هذه الشروط وتولى المنصب.
غير أن بيات لم يلتزم دائماً بتعهده، بحسب مديرين سابقين آخرين في ’أريانا نيوز‘ طلبا عدم ذكر اسميهما، ولكن تدخلاته كانت نادرة في السنوات الأولى من انطلاق بث ’أريانا نيوز‘، وقالا إن بيات ألغى في أحد تدخلاته تحقيقاً في قضية أراضٍ متعللاً بأنه قد تقوض عقوداً أبرمها مع القوات الدولية وتضر بعلاقاته مع الحكومة الأفغانية. (عندما طلبت لجنة حماية الصحفيين من بيات التعليق على ذلك وعلى قضايا أخرى، امتنع متحدث رسمي باسم بيات عن تقديم قائمة الأسئلة التي طرحتها لجنة حماية الصحفيين إلى بيات بل قام بدلاً من ذلك بتزويدها ببيان مكتوب صادر عن المدير الإداري الحالي لشبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون، حبيب دراني، يقول فيه إنه “بعد أكثر من 17 عاماً من العمل في هذه البيئة سريعة الخطى وسريعة التغيُّر، فإن الموظفين سيختلفون وتكون لهم آراء وتصورات مختلفة بشأن مجموعة واسعة من القضايا”).
ثم بدأت معاناة المحطتين عندما أخذ تمرد حركة طالبان المسلح يتمدد. وبحلول عام 2018، أخذت أعداد الصحفيين الذين يصابون بجروح أو يُقتلون تتزايد، فيما بدأ بيات بالتدخل في التغطية بوتيرة أكبر حسب ما قاله المديران. وبحلول عام 2020، كانت جائحة كوفيد-19 تجتاح البلاد أيضاً مما أضعف الاقتصاد وأضر بالأعمال.
وفي عام 2020، أغلقت ’أريانا نيوز‘ محطتيها في هرات ومزار الشريف وقامت بتسريح معظم موظفيها في الولايتين، بما في ذلك تسريح الكثير من الموظفات. وبحسب شريف حسنيار، وعلي أصغري المدير السابق لقناة ’أريانا نيوز‘، ووارث حسرات، مدير البرامج السياسية السابق في الشبكة، فإن شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون وقناة ’أريانا نيوز‘ سرحتا حتى وقت سقوط حكومة أشرف غني عام 2021 ما يقارب 130 موظفاً، مما يرفع إجمالي عدد الموظفين المسرحين إلى 270 تقريباً.
استقالات قسرية
وجاءت سيطرة حركة طالبان على الحكم عام 2021 لتسرع من إفراغ وسائل الإعلام من موظفيها، فبحسب حسنيار، ترك العديد من مذيعي شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون وقناة ’أريانا نيوز‘، كما تركت موظفات عديدات، أعمالهم بكل بساطة عندما سقطت كابول بيد حركة طالبان في 15 آب/ أغسطس. لكن القصة الكاملة ليست بهذه البساطة بل هي أعقد من ذلك. وذكرت رؤيا نادري التي كانت مقدمة برامج صباحية تركز على القضايا الاجتماعية وكانت واحدة من أشهر المذيعات في الشبكة، للجنة حماية الصحفيين أنها كانت في مكتبها في ذلك اليوم، ويومها طلب المدراء في أريانا من النساء في شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون مغادرة المحطة بينما كانت قوات حركة طالبان تقترب من المدينة. وقالت نادري للجنة حماية الصحفيين إنها وعند وصولها إلى بيتها ارتدت ثياباُ سوداء طويلة خشية من عاقبة أن يراها مقاتلو حركة طالبان بلباس غير ذلك – ومن ثم أخذت تنتظر لترى ما الذي سيكون عليه مستقبلها.
وتروي رؤيا نادري أنه وبعد أربعة أيام من ذلك اتصل بها شخص ما من قسم الموارد البشرية في شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون يطلب منها تقديم استقالتها قائلاً إن حركة طالبان لن تتساهل مع مسألة وجود مذيعات في الشبكة. وتقول رؤيا إنه على الرغم من أنها وغيرها من المذيعات خشين من ردود فعل انتقامية من حركة طالبان إلا أنهم كن يردن العودة إلى عملهن نظراً لحاجتهن الماسة للدخل. لكن رؤيا قالت إنها وكثير من زميلاتها المذيعات أُجبرن على الاستقالة بصرف النظر عن أي شيء آخر. (وأفاد ناطق باسم مديرية الموارد البشرية في شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون للجنة حماية الصحفيين عبر تطبيق للتراسل بأن الشبكة لم تفصل الموظفين المذكورين في هذه المقالة “بسبب ما يُسمى ’ضغوطات‘ من حركة طالبان”، وشكّكَ في أن بعض الموظفين قد سُرِّحوا من العمل.
أما إدارة قناة ’أريانا نيوز‘ فقد نحت منحى آخر غير الذي انتهجته شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون، حيث التأم العديد من ممثلي القنوات الإعلامية أوائل عام 2021 لتشكيل هيئة رقابية أطلقوا عليها اسم مركز أفغانستان لحرية التعبير. وبعد سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، قرر هؤلاء أن ظهور مذيعات على الشاشة سوف يستمر.
وقالت مذيعة قناة ’أريانا نيوز‘، فوزية وهدات، للجنة حماية الصحفيين إنها تمكنت من مواصلة تقديم الأخبار على الهواء حتى 9 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، حيث أكملت مع القناة نحو عقد كامل. وتقول فوزية إنه بعد سيطرة حركة طالبان على الحكم، قام عناصر من جهاز المخابرات التابع لحركة طالبان بإجبار قناة أريانا على فصل الموظفين الذكور عن الإناث في مكاني عمل منفصلين – وهو ما أكده اثنان من كبار مدراء ’أريانا نيوز‘. وقد طلب موظفو الموارد البشرية في ’أريانا نيوز‘ من موظفات القناة ارتداء أثواب طويلة سوداء، بناء على تعليمات حركة طالبان على ما يبدو.
وقالت فوزية للجنة حماية الصحفيين إنه خلال معظم الفترة الواقعة بين عامي 2004 و2021 “عملنا بحرية كاملة. ولكن عند سيطرة حركة طالبان على الحكم باتت جميع البرامج وجميع المخرجين ومحرري الأخبار والمذيعين يرزحون تحت الضغط… في أغلب الأحيان، يعطينا المخرجون أسئلة محددة لنطرحها على الضيوف ولا نستطيع تجاوز تلك الحدود. لكني لم أستطع القيام بذلك”.
وتتابع فوزية قائلة إنه عندما كان الصحفيون يتجاهلون تلك القوانين غير المدونة كانت حركة طالبان تمارس عليهم المزيد من الضغوط، “فقد طلبوا منا أن نؤيدهم ونظامهم السياسي في برامجنا. وكانوا يقولون لنا إن الصحفيين شنوا حملة ضدهم طيلة 20 سنة وقد حان الوقت كي يكفِّروا عن ذلك بتأييدهم لنا”. ولكن في نهاية المطاف، أجبر مديرو ’أريانا نيوز‘ فوزية على الاستقالة، حسب قولها.
وتقول مذيعة أخبار أخرى ومقدمة برامج سياسية في ’أريانا نيوز‘، هي نسرين شيرزاد، إنها عملت بلا توقف في اليوم الذي سقطت فيه كابول بيد حركة طالبان. وحتى قبل استيلاء حركة طالبان على السلطة لم يكن عمل شيرزاد كمقدمة برامج سياسية وإخبارية سهلاً؛ فالمحافظون في منطقة ننغارهار، مسقط رأسها، شرقي البلاد كانوا يستهجنون عملها في محطة تلفزيونية. وتقول نسرين إنه “لا توجد مدارس للبنات” في منطقتها الأصلية وإنها تمكنت من الحصول على التعليم لأن والديها انتقلا إلى كابول؛ وأضافت “إنهم لا يحبون رؤية البنات خارج المنزل، فما بالك برؤيتهن على شاشة التلفزيون”.
وذكرت نسرين للجنة حماية الصحفيين أنه قبل نحو شهر من سيطرة حركة طالبان على الحكم اكتشفت الشرطة قنبلة مزروعة بالقرب من المبنى الذي تقع فيه شقتها، وأن الجيران ألقوا باللائمة عليها في تعريضهم للخطر لأن بروز شخصيتها جعل منها هدفاً. وتقول نسرين إنه في اليوم الذي تلا سقوط كابول بدأت حركة طالبان بالضغط على ’أريانا نيوز‘ لفصلها من عملها، وكان بعض من عناصر الحركة الذين مارسوا هذا الضغط أقارب لنسرين من منطقتها الأصلية. وفي هذا الصدد، ذكر شريف حسنيار أن تهديدات وُجهت إليه وإلى شقيق نسرين شيرزاد.
وتقول نسرين إن الإدارة في قناة ’أريانا نيوز‘ أجبرتها في 21 آب/ أغسطس على التوقف عن العمل مع القناة. وقد أكد حسنيار روايتها هذه بقوله إنه تلقى مكالمة حوالي ذلك التاريخ من شخص عرَّف بنفسه كقريب بعيد لنسرين شيرزاد “قال لي إنه غير مسموح لها بالظهور على شاشة التلفزيون بعد الآن، وهددني بأنه أذا ما استمرت في العمل بمحطة التلفزيون، فإنهم سيفعلون ما يشاءون بها وأنهم سيجدونني ويفعلون بي ما يشاءون. وقد جاءت نسرين إليَّ وكانت تبكي وسألتني عما ينبغي عليها فعله، فقلت لها إن حياتها هي أغلى ما تملك… ولكني لم أفصلها، لكنها للأسف أُجبرت على ترك العمل”.
بالمقابل، ظل المذيعون الذكور قادرين على الظهور على الشاشة لكنها خضعوا للرقابة. وذكر بزهان أريان، وهو مذيع أخبار ومقدم لبرامج سياسية، للجنة حماية الصحفيين أنه تحدى في بث مباشر مساء يوم 16 آب/ أغسطس المتحدث باسم حركة طالبان بشأن سياسة الحركة التي تفرض على الرجال إطلاق اللحى وعلى النساء تغطية رؤوسهن وأجسادهن بالكامل. إلا أن المديرين في قناة ’أريانا نيوز‘ وبّخوه لاحقاً لمناقشته قضايا خلافية ومشاكسته للمتحدث الرسمي باسم حركة طالبان. وفي وقت لاحق تمت إزالة ذلك الجزء من المقابلة من أرشيف المحطة المتاح على شبكة الإنترنت.
غير أن بزهان أريان استمر في تحدي المتحدثين باسم حركة طالبان وعندما زار مدير دائرة المخابرات الداخلية الباكستانية كابول عقب سقوط البلاد بيد حركة طالبان، أجرى بزهان مقابلة مع المتحدث الرسمي باسم حركة طالبان، أنام الله سمنغاني، وسأله عن سبب تعامل حركة طالبان مع المخابرات الباكستانية وليس وزير الخارجية أو أي ممثل مدني. ثم واصل بزهان الضغط على المتحدث بشأن الزيارة – عن أهداف باكستان فيما يتعلق بأفغانستان وعما إذا كانت باكستان قد تسببت في تأجيل إعلان حركة طالبان عن الحكومة. وقال بزهان للجنة حماية الصحفيين “لقد أصبح ذلك البرنامج أكثر إشكالية بالنسبة للمديرين إذ سألوني عن سبب طرحي لمثل تلك الأسئلة الصعبة على المتحدث الرسمي. وقالوا لي أذا واصلت الضغط على حركة طالبان فإنه لن يكون أمامهم من بديل سوى فصلي من العمل”.
وظل بزهان يعمل مع ’أريانا نيوز‘ حتى نهاية أيلول/ سبتمبر 2021، ويقول إنه أُجبر بعد ذلك التاريخ على أخذ إجازة ومن ثم تم إبلاغه بأنه سُرح من عمله. وذكر للجنة حماية الصحفيين أنه ظل بعض ذلك يتعرض للمضايقة من قبل حركة طالبان عبر الهاتف وأنهم ظلوا يراقبون منزله إلى أن فر من أفغانستان في آذار/ مارس 2022.
خيارات صعبة
كان مديرو قناة ’أريانا نيوز‘ خاضعين للضغوط أيضاً.
تولى حميد صدّيقي إدارة قناة ’أريانا نيوز‘ في أيلول/ سبتمبر 2021 بعد مغادرة شريف حسنيار للشبكة. ويقول حميد الذي مكث في منصبه أقل من شهر واحد “إن وكالة مخابرات حركة طالبان استدعتني إلى مديرية المخابرات العامة عدة مرات عندما كنت مديراً لقناة ’أريانا نيوز‘. وقد حاولت الرفض لكنهم هددوني بالاعتقال إن لم أراجعهم. وقد أبلغني عناصر المخابرات هناك بعدم السماح بوجود مذيعات في المحطة بعد الآن، فقلت ’لا يمكنني قبول ذلك‘ ولكن مدير مخابرات حركة طالبان لشؤون الإعلام آنذاك، مشال أفغان، صفعني وطلب مني أن أسكت وأن أصغي إليه” (وحاولت لجنة حماية الصحفيين الاتصال بمشال أفغان للحصول على تعليقه لكنها لم تحصل على أي رد).
وقال حميد إنه سأل ضابط المخابرات عن سبب تصرفه بوقاحة شديدة معه، وأنه أوقف بسبب ذلك السؤال لثلاث ساعات “قاموا خلالها بضربي وإهانتي حيث ضربوني على رأسي وظهري عدة مرات ببنادقهم…. وفي الليلة نفسها قام قسم الموارد البشرية في ’أريانا نيوز‘ بفصلي من عملي”.
وتولى المنصب مدير آخر ولم يمكث في منصبه سوى 25 يوماً قبل أن يفر إلى ألمانيا. ففي منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أصبح على أصغري المدير الرابع لقناة ’أريانا نيوز‘ خلال شهرين. وينتمي أصغري إلى أقلية قزلباش وهو مسلم شيعي. لكن حركة حركة طالبان السنية صنفته على أنه من الهزارة – وهي أكبر جماعة إثنية شيعية في أفغانستان- ورمته بالشتائم.
وذكر أصغري للجنة حماية الصحفيين أنه استُدعي إلى إدارة مخابرات حركة طالبان 10 مرات خلال فترة توليه لزمام العمليات اليومية في ’أريانا نيوز‘ من تشرين الأول/ أكتوبر 2021 إلى أيار/ مايو 2022، حيث تم استجوابه بخصوص ’أريانا نيوز‘ وبرامجها. ويقول أصغري إن حركة طالبان جندت عدداً كبيراً من الأشخاص – ربما يصل إلى 200- لمراقبة وسائل الإعلام الأفغانية ومتابعتها، وهو تقدير مبني إلى حد كبير على زياراته لقسم شؤون الإعلام في مديرية المخابرات العامة التي كانت تحت قيادة جواد سرغار آنذاك.
ويقول أصغري إن تركيز عناصر المخابرات كان منصبّاً في بداية استيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان بشكل رئيسي على الضغط على المحطة التلفزيونية فيما يتعلق بما اعتبروه قضايا كبرى من قبيل ظهور المذيعات على الشاشة أو بث المسلسلات. ولكن في الأشهر القليلة الأخيرة من عمل أصغري، تولى جواد سرغار إدارة أدق التفاصيل حتى في الشؤون الصغيرة، حيث كان يأتي إلى المحطة وذلك بمثابة تحذير لأصغري بأنه إذا فعل شيئاً لا يعجب حركة طالبان فسيتم اعتقاله أو توقيفه أو حتى احتمال قتله. (وفي رده على طلبات لجنة حماية الصحفيين للتعليق على هذا الاتهام وغيره من الاتهامات، ترك سرغار رسالة صوتية للجنة حماية الصحفيين قال فيها إن ذلك “خاطئ تماماً” ووعد بمناقشة ذلك لاحقاً. ولكنه لم يرد على العديد من محاولات الاتصال به لاحقاً).
ويقول أصغري إنهم “على سبيل المثال، قد يأتون ويطلبون منا تعديل الاقتباسات المنقولة. ولا يوجد مكان في العالم يجوز فيه تغيير حرفية الاقتباسات… فإذا نقلنا عن الممثل الخاص الأمريكي [في أفغانستان] توم ويست قوله ’جماعة طالبان‘ في خبر ما، فسيأتي سرغار ويهددنا ويخوفنا بسبب استخدامنا لعبارة ’جماعة طالبان‘ ثم يأمرنا بتعديل الاقتباس المنقول واستخدام عبارة ’إمارة أفغانستان الإسلامية‘ بدلاً منها”.
وكان جواد سرغار يدخل مكاتب ’أريانا نيوز‘ متى شاء ويزور كافة أقسام المحطة التلفزيونية دون إشعار مسبق. وكان يستدعي أحد الصحفيين إلى قاعة الاجتماعات ويأمره بإخراج هاتفه وحاجياته من جيبه وأن يضعها على الطاولة كي يضمن عدم تسجيل الاجتماع، بحسب أقوال أصغري.
ولم يكن جواد سرغار ينادي على علي أصغري باسمه أبداً بل كان يناديه “يا هزارة” وعندما كان أصغري يجادل ضد الرقابة كان سرغار يهدده ممازحاً “اسمع يا هزارة، سوف أقتلك ذات يوم” أو “أنت شيعي ومصافحتك حرام”.
وفي يوم 12 آذار/ مارس 2022 استدعى جواد سرغار علي أصغري إلى مبنى مديرية المخابرات العامة حيث تم استجوابه من قبل ضابط مخابرات آخر بخصوص تغطية ’أريانا نيوز‘ لأخبار جبهة المقاومة الوطنية، وهي جماعة مناهضة لحركة طالبان. وقال أصغري إن الضابط الذي استجوبه قيَّد يديه خلال جلسة الاستجواب التي استغرقت ثلاث ساعات وأنه أخذ منه معلومات عن الوظائف السابقة والحالية التي عمل بها أفراد عائلته وسأله عما إذا كانوا ضالعين مع جبهة المقاومة الوطنية.
وفي رسالة عبر تطبيق واتساب أرسلت إلى أصغري في 18 آذار/ مارس 2022، واطلعت عليها لجنة حماية الصحفيين، طلب فيها سرغار من أصغري عدم نشر أي شيء عن الاجتماعات بين ضباط المخابرات ووسائل الإعلام. وكانت قناة طلوع نيوز قد بثت للتو تقريراً تقول فيه إن دائرة المخابرات طلبت منها التوقف عن بث المسلسلات التلفزيونية وأن حركة طالبان اعتقلت ثلاثة من موظفيها. وجاء في الرسالة “خلال الأيام القليلة التي اجتمعنا فيها مع مسؤولين إعلاميين، كان الشرط أنه لا يمكن لأحد تسريب هذه المسائل”، مشيراً إلى أمر التوقف عن بث المسلسلات. وتتابع الرسالة “ولكن طلوع نيوز عصت الأوامر، ومن هنا برز الخلاف بيننا. ونحن نأمل أن يكون هناك تعتيم على مثل هذا القضايا وألّا يقوم أحد بنشر تلك الأخبار، حتى [أخبار] توقيف مسؤولين من طلوع نيوز”.
وفي 22 نيسان/ أبريل 2022، كان علي أصغري يتمشى في منطقة كارته سه بالعاصمة كابول عندما اقتربت منه مركبة تابعة لحركة حركة طالبان قفز منها أربعة رجال مسلحين وبدأوا بضربه بقوة باستخدام قفل دراجة، حسب قوله، ووصفوه “بصحفي جاسوس” وكافر. وأصيب أصغري بجروح في رأسه جراء ذلك. وبعدها قرر أصغري أنه لم يعد يمكنه البقاء أكثر من ذلك في أفغانستان هرب إلى بلد آخر بعد ذلك بفترة قصيرة، لكنه يقول إنه لا يزال يشعر بعدم الأمان هناك.
ويجد صحفيون وتنفيذيون إعلاميون أفغان آخرون أنفسهم أمام خيارات صعبة على نحو مماثل؛ فالحفاظ على الشعلة الصحفية متقدة قد يعني الانصياع لإملاءات حركة طالبان؛ وترك العمل ثمنه دائماً ترك البيت والأسرة ومصدر الرزق والمهنة.
أما بالنسبة لمالكي وسائل الإعلام، فإن المخاطر المالية قد تكون عالية هي الأخرى.
فإحسان بيات، على سبيل المثال، لديه استثمارات في قطاعات الاتصالات والكهرباء والطاقة في أفغانستان بالإضافة إلى ممتلكاته في شبكة أريانا. ويعمل في مجموعة بيات التابعة له أكثر من 1,000 أفغاني. وأعرب ثلاثة موظفين سابقين في ’أريانا نيوز‘، طلبوا عدم ذكر أسمائهم، للجنة حماية الصحفيين عن اعتقادهم بأن بيات استخدم الرقابة على شبكاته التلفزيونية منذ استيلاء حركة طالبان على الحكم لأنه لا يريد للخلافات أن تهدد عمليات شركة الاتصالات اللاسلكية الأفغانية وشركة بيات للكهرباء (بيات باور) وشركة بيات للطاقة التابعة له.
ولم تتلقَ لجنة حماية الصحفيين رداً على طلبها التعليق على آراء هؤلاء الموظفين السابقين من المدير الإداري لشبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون، حبيب دراني، الذي تعهد في بيانه المرسل إلى لجنة حماية الصحفيين بأن تواصل أريانا البث مع ضمان أن تظل سلامة موظفيها وصالحهم في أعلى سلم أولوياتها دائماً. وقال “على الرغم من التحديات التي تواجهها البلاد، ما تزال شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون تبث برامجها وستبقى كذلك لأجيال قادمة”.
أما العارفين ببواطن الأمور في أريانا ممن تحدثوا مع لجنة حماية الصحفيين فهم أقل تفاؤلاً من دراني. يقول علي أصغري إن زملاء سابقين قالوا له إن إيرادات ’أريانا نيوز‘، بما فيها الإعلانات المدفوعة من شركة الاتصالات اللاسلكية الأفغانية، لا تغطى الآن سوى 35% من مصاريفها، فيما يسدد بيات الباقي.
وقال هؤلاء للجنة حماية الصحفيين أيضاً أن العدد الإجمالي لموظفي شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون وقناة ’أريانا نيوز‘ في أقسام التلفزيون والإذاعة وشبكة الإنترنت هوى من نحو 400 موظف في عام 2018 إلى 60 موظفاً عام 2022. هذا وقد توقفت محطة راديو أريانا و محطة ’أريانا نيوز‘ إف-إم عن البث منذ ستة أشهر. ويبلغ عدد موظفي ’أريانا نيوز‘، بما في ذلك موظفو قسم الإنترنت، الآن حوالي 18 موظفاً بينهم امرأة واحدة.
وثمة تحدٍ آخر يواجه شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون، ألا وهو العناء المنبثق عن ملء الفراغ البرامجي الذي تسبب به منع حركة طالبان للمسلسلات التلفزيونية وغيرها من البرامج الترفيهية. وبحسب حسنيار وأصغري فإن شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون وقناة ’أريانا نيوز‘ ما تزالان تعملان كمحطتين منفصلتين لكنهما تتشاركان المحتوى، حيث تعتمد الشبكة بشدة على تغطية ’أريانا نيوز‘ للأحداث. ويخشى المدراء السابقون من أن ضغط الرقابة المتزايد والتهديدات والقيود المالية ربما يجبر ’أريانا نيوز‘ قريباً على التوقف عن البث تماماً تاركة شبكة أريانا للإذاعة والتلفزيون خاوية على عروشها.
فبالنسبة لهم ولصحفيين أفغان كثيرين، فإن إصرار حركة طالبان المستمر على أنها تدعم الإعلام “ضمن أطرنا الثقافية” هو ادعاء أجوف على نحو خاص.