في الأيام التي تلت مقتل ماري كولفن و ريمي أوشليك في مدينة حمص السورية خلال العام الجاري 2012، صدرت عن بعض المراسلين من الزملاء تكهنات بشأن الدور الذي قد تكون لعبته هواتف الأقمار الصناعية في مقتلهم. كولفن وأوشليك كانا يعملان من مركز إعلامي مرتجل تم استهدافه بدقة بواسطة الصواريخ. فهل تعقبهم القتلة باستخدام إشارات الهواتف ذاتها التي كان الصحفيون يرسلون تقاريرهم منها؟
إن مخاطر العمل في منطقة الحرب مألوفة، إلا أن المخاطر الظاهرة لاستخدام جهاز اتصالات شائع بين المراسلين الخارجيين مثلت بعداً جديداً من الغموض. وقد ناضل الصحفيون المجربون من أجل فهم ما الذي يمكن أن تكشف عنه هذه التكنولوجيا فيما يتعلق بمواقع تواجدهم، وإدراك احتمالية أن يكون كل من كولفن وأوشليك قد استُهدفا من قبل الجيش السوري، تحديداً، بسبب قدرتهما على بث أخبار من مدينة منعت عنها عمداً خطوط الاتصالات – وهي احتمالية أثارها الصحفي جان-بيير بيرين من صحيفة ‘ليبيراسيون’. لقد كانت هواتف الصحفيين تستخدم لبث الفظائع التي تحدث في المدينة، ولهذا السبب ربما تكون السلطات قد سعت إلى تتبع عمليات البث تلك والقضاء عليها في مصدرها.
ليس كل صحفي مراسلاً حربياً دولياً، وليس كل هاتف محمول يحمله الصحفي جديراً بالثقة. يستخدم المراسلون الهواتف المحمولة لجمع الأخبار وبثها من شتى أنحاء العالم، لا سيما الهواتف الذكية التي تعمل بالإنترنت. ولكن الهواتف المحمولة تجعل من عمليات تحديد موقع الصحفي وتخويفه وكشف مصادره السرية أمراً أكثر سهولة. بوسع أنظمة الهواتف المحمولة أن تحدد موقع المستخدمين الأفراد بنسبة خطأ لا تزيد عن بضعة أمتار، كما أن مزودي خدمة الهواتف المحمولة يحتفظون بسجلات لتحركات الأشخاص ومكالماتهم لأشهر بل ولسنوات حتى. وقد اتهم صحفيون استقصائيون شركات هواتف محمولة غربية، مثل ‘تيليا سونيرا’ و ‘فرانس تيليكوم’، في أوطانهم بالاشتراك في تعقب المراسلين في حين تم استيراد أدوات برمجية للتجسس على الهواتف المحمولة صُنعت لدوائر إنفاذ القانون في البلدان الغربية – بحسب باحثين في مجال حماية أجهزة الكمبيوتر يعملون مع نشطاء حقوق الإنسان – بهدف استخدامها ضد الصحفيين الذين يعملون في ظل أنظمة قمعية في إثيوبيا والبحرين وبلدان أخرى.
تقول كاترين فيركلاس من المعهد الديمقراطي الوطني إنه “يتوجب على المراسلين أن يدركوا أن الاتصالات عبر الهواتف المحمولة بطبيعتها غير مأمونة فهي تعرضك لمخاطر من غير السهل كشفها أو التغلب عليها”. يعمل ناشطون، مثل فيركلاس، على مواقع كموقع SaferMobile.org تقدم للصحفيين نصائح أساسية تساعدهم على حماية أنفسهم. وقد أصدرت لجنة حماية الصحفيين مؤخراً دليل حماية يتطرق لمسألة استخدام هواتف الأقمار الصناعية وتقنيات الهواتف المحمولة الرقمية. ولكن الحكومات القمعية لا تحتاج إلى مواكبة كافة خدع الحوسبة المحمولة، إذ يمكنها أن تفرد ميزانية وأن تنزع قوانين الخصوصية كي تحصل على كل الصلاحيات التي تريد. وما لم يشدد المنظمون والشركات التكنولوجية والعاملون في مجال الإعلام من مستوى دفاعهم عن حرية الصحافة سيصبح الهاتف المحمول أكثر أدوات الصحفيين غدراً بهم.
إذا أراد المرء معاينة مركز ثورة الهاتف المحمول، فلن يتوجب عليه الذهاب إلى مختبرات ‘سيليكون فالي’ أو مصانع الآيفون في الصين، بل إلى العاصمة الكينية نيروبي. لقد نما الاستقرار السياسي والاقتصادي في كينيا يداً بيد مع البنية التحتية للهواتف المحمولة. وجاء في تقرير للبنك الدولي عام 2011 أن قطاع المعلومات والاتصالات في كينيا يسهم بنقطة مئوية كاملة تقريباً في النمو الاقتصادي للبلد يقف وراءها حجم ملكية الهواتف المحمولة التي ارتفعت من أقل من واحد بالمائة من السكان عام 1999 إلى أكثر من 64 بالمائة عام 2011. لقد قفز عدد الأشخاص الذين يستخدمون الهاتف المحمول بسرعة ليتخطى عدد الذين يستخدمون الهاتف السلكي التقليدي واشتراكات وصلة الإنترنت، حيث يُنظر إلى هذا البلد الآن كنموذج وحقل اختبار لمستقبل الهاتف المحمول على مستوى العالم. كينيا هي موطن نظام إم-بيزا (M-PESA) للدفع والخدمات البنكية واسع الانتشار والمستند إلى الهاتف المحمول الذي يتيح للمواطنين الكينيين استخدام هواتفهم المحمولة لحمل ما يعادل رصيدهم النقدي وإجراء عمليات شراء فوري وآمن لطائفة واسعة من المواد والخدمات كدفع فاتورة الكهرباء وشراء البضائع التي تباع على قارعة الطريق. وهي أيضاً موطن نظام أوشاهدي وهو نظام لرسم خرائط للكوارث استُحدث في البداية للسماح لمستخدمي الهاتف المحمول بتسجيل أحداث العنف الانتخابي الذي تفجر عام 2007.
كما أن نيروبي، التي يقارب عدد سكانها 3.4 مليون نسمة، هي ملاذ لمجموعة كبيرة من صحفيي شرق أفريقيا المنفيين؛ فهؤلاء الصحفيون الذين فروا من القمع في رواندا وإريتريا والصومال وإثيوبيا يعتمدون على رخص تكلفة الهاتف المحمول في نيروبي في الاتصال المستمر مع عائلاتهم وأصدقائهم في الشتات وفي الوطن. لكن هذه الهواتف تقوم أيضاً بتوصيل رسائل التهديد بالموت. فبينما كنت أجلس في مطعم بنيروبي أناقش الأمن الرقمي مع صحفي إثيوبي مبعد – وهو واحد من أكثر من 50 مبعدين بسبب أعمال كتبوها في العقد الماضي- أخبرني أنه يتلقى نصوصاً تقول له إن المرسل يعلم مكانه وسوف ينال منه. وتساءل الرجل: إذا كانوا يستطيعون العثور على رقم هاتفي، فهل يستطيعون العثور علي؟
والجواب على هذا السؤال غير مطمئن بالنسبة للمراسلين العاملين في الأوضاع الخطرة. فكل جهاز هاتف محمول عبارة عن جهاز تعقب كما يقول الصحفيان بيتر ماس و ميغا وراجاغوبلان، وهما يعملان على الخصوصية الرقمية في ‘برو بوبليكا’. تقوم الهواتف بالتبليغ عن موقعها التقريبي لشركة الهواتف المحمولة المحلية وذلك ضمن عملية تحديد برج الاتصال الذي سيتم استخدامه. وتعتمد دقة تحديد الموقع على مدى قرب أبراج الاتصال من بعضها، ويمكن لها في مدينة مزدحمة، كنيروبي، أن تصل إلى بضعة أقدام. يعاني كثير من الصحفيين المنفيين في هذه المدينة من شظف العيش في أحياء كيبيرا وماثاري الفقيرة. وفي الوقت الذي تتسم فيه خدمات التصريف الصحي أو إنارة الشوارع أو الكهرباء المنزلية بالقلة في هذه البلدات التي تتألف غالبية بيوتها من الأكواخ، تنتصب أبراج الاتصال فوق أسقف الأكواخ.
يقوم مزودو خدمات الهاتف المحمول بالاحتفاظ ببيانات الموقع، فإذا تمكّن شخص ما من الحصول على رقم هاتفك فلا يعني ذلك أن بوسع هذا الشخص الحصول على معلومات موقعك. ولكن، وكما هي الحال في معظم الدول، تربط شركات الهواتف المحمولة في كينيا علاقة حميمة بالحكومة وهي تعتمد على عقود الطيف الراديوي المتفاوَض عليها وطنياً كما تكون في كثير من الأحيان سليلة شركات احتكارية تملكها الدولة. (كانت الحكومة الكينية تمتلك غالبية أسهم شركة ‘سفاريكوم’، وهي كبرى الشركات المزودة لخدمات الهاتف، إلى أن تم عرضها على الاكتتاب العام سنة 2008. أما الآن فالحكومة تمتلك 35 بالمائة).
أما الحكومات في بلدان أخرى، لا سيما تلك التي لا تربطها علاقة ود مع كينيا، فمن غير المحتمل أن تضع يدها على بيانات تتبع الموقع. ولكن داخل البلد الواحد، سواء أكان ذاك البلد كينيا أم الولايات المتحدة، لا يخضع استخدام مثل هذه البيانات للتنظيم، وهو أمر يثير الدهشة. وقال شخص من شرطة نيروبي، اشترط عدم ذكر اسمه، للجنة حماية الصحفيين إن بيانات الهاتف المحمول تُستخدم بصورة منتظمة لكشف أماكن تواجد مجرمي الشوارع والقبض عليهم. وفي تموز/ يوليو 2012، نشر النائب الأمريكي إدوارد ماركي بيانات تظهر أن شركات الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة استجابت لأكثر من 1.3 مليون طلب لمعلومات مشتركين من جهات إنفاذ القانون عام 2011، كثير منها غير مؤيد بمذكرات استدعاء أو أمر قضائي.
في إثيوبيا، يتم التحكم بشبكة الاتصالات برمتها، بما في ذلك الهواتف المحمولة والإنترنت، مباشرة من قبل الحكومة من خلال الشركة الاحتكارية ‘إثيو تيليكوم’ التي تديرها شركة ‘فرانس تيليكوم’، وهذه الأخيرة ملزمة بالتقيد بأوامر الحكومة الإثيوبية بما في ذلك حجب العشرات من المواقع الإخبارية (ومن بينها موقع لجنة حماية الصحفيين). وفي أيار/مايو 2012، نفذ نظام الهواتف المحمولة عريضة النطاق في إثيوبيا عملية فحص معمق للحُزم لمعرفة المستخدمين الذين لديهم برنامج ‘تور’ المضاد للرقابة ومن ثم حجبهم. وذكر رئيس هيئة المديرين في ‘إثيو تيليكوم’ آنذاك، جان-ميشيل لاتوت، لصحيفة ‘لا كرو’ أن القرار اتُخذ من قبل وزارة الاتصالات، لكن الفحص المعمق للحزم كان برغم ذلك “أداة مفيدة جداً” للشركة.
‘فرانس تيليكوم’ ليست شركة الهواتف المحمولة الغربية الوحيدة المتورطة في الرقابة على الصحفيين والسيطرة عليهم. ففي نيسان/ أبريل 2012، أوضح البرنامج التلفزيوني التحقيقي السويدي “أوبدراغ غرانسكننغ” (Uppdrag Granskning) بالتفصيل الكيفية التي سلمت بها شركة ‘أزرسيل’، وهي شركة تابعة لشركة ‘تيليا سونيرا’ السويدية، معلومات المكالمات والنصوص والموقع الخاصة بأجيل خليل مراسل صحيفة ‘أزادليغ’ الأذرية لجهاز المخابرات المحلي عام 2008. وكان خليل قد تعرض للاعتداء عدة مرات خلال فترة المراقبة. وفي رد منها على الفيلم الوثائقي، قالت شركة ‘تيليا سونيرا’ إنها ستقوم بفحص عملية الامتثال لأوامر السلطات “والشروع في حوار” مع السلطات في أذربيجان وتوفير التدريب للموظفين في مجال حقوق الإنسان.
وواجهت شركة ‘نوكيا سيمنز نِتويركس’ الفنلندية دعوى قضائية رفعتها في عام 2010 أسرة الصحفي الإيراني عيسى سهارخيز تزعم فيها الأسرة أن الشركة قدمت معدات استخدمت في تحديد موقع الصحفي عبر هاتفه المحمول بعد اختبائه. وخلال فترة فراره، قال سهارخيز لصحيفة ‘دير شبيغل’ “كنت أقوم بتشغيل هاتفي لمدة ساعة واحدة فقط كل يوم لأنه يمكنهم تعقبي واعتقالي”. وبعد تلك المحادثة بساعات فقط تم القبض على سهارخيز حيث كُسرت أضلاعه ومعصميه واقتياده إلى سجن إيفين حيث كان يقبع هناك أواخر عام 2012. وفي تصريحات علنية قالت شركة ‘نوكيا’ إن “تلك القدرة [المتعلقة بتحديد موقع الهاتف المحمول ومراقبته] أصبحت ميزة قياسية جراء إصرار الولايات المتحدة ودول أوروبية… من غير الواقعي المطالبة، كما تفعل دعوى سهارخيز، ببيع أنظمة الاتصالات اللاسلكية المستندة إلى معايير التكنولوجيا العالمية دون أن تكون فيها تلك القدرة”. ومن ثم تم سحب الدعوى طوعياً من قبل أسرة الصحفي بعد أن قررت محكمة أمريكية أن لا يمكن تحميل شركة المسؤولية القانونية بموجب قانون دعاوى الضرر للأجانب الذي أُقيمت على أساسه الدعوى. ومع ذلك سحبت شركة ‘نوكيا سيمنز نتويركس’ استثماراتها من مركز المراقبة التابع لها وقالت إنه “باستثناء بعض الصلات الفنية التعاقدية” لم تعد لها “أية عمل معه”.
على الرغم من أن الهواتف المحمولة تحتوي على قدرة أصلية ضمن تكوينها على تتبع أماكن تواجد الصحفيين، إلا أنها قد تكون أكثر فتكاً في تقويض خصوصية المراسلين ومصادر معلوماتهم عندما تكون تلك القدرة مقرونة ببرامج حاسوبية خبيثة.
في الأشهر الأولى من عام 2012، أبلغ ناشطون بحرينيون أنهم يتلقون مرفقات عبر البريد الإلكتروني لم يطلبوها توهم مستلميها أنها من مراسلة قناة ‘الجزيرة’ ميليسا تشان. وكانت تلك الرسائل برامج خبيثة تهدف إلى الاستيلاء على الكمبيوترات المكتبية للناشطين وإرسال التقارير إلى جهاز الخادم المركزي في البحرين. لقد أخذ النوع من الاعتداءات على الصحفيين يزداد انتشاراً، وكانت تشان نفسها هدفاً دائماً لمثل هذه البرامج الخبيثة عندما كنت مراسلة في الصين. وقد اكتشف الباحثان في مجال حماية الكمبيوتر بيل ماركزاك ومورغان ماركيز-بوير أن برنامج التجسس هذا هو أحد منتجات برنامج يدعى ‘فينفيشر’ (FinFisher) -وهو برنامج متوفر في الأسواق طورته شركة ‘جاما غروب’ التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها، على فرض أنه لاستخدامات وكالات إنفاذ القانون والوكالات الحكومية. وكان هذا أمراً ملفتاً لأن برامج التجسس الموجهة ضد الصحفيين ومصادرهم عادة ما تكون نسخة مفبركة من برمجيات يكتبها محتالون وليس برنامجاً مطوراً خصيصاً لأغراض حكومية.
وقد تبيّن أن عينات لاحقة حصل عليها الباحثان هي عبارة عن نسخ مختلفة من برنامج ‘فنفيشر’، مثل ‘فينسباي’ (FinSpy)، ولكن لم تكن تستهدف الكمبيوترات المكتبية بل أجهزة الآيفون والأندرويد والبلاك بيري وهواتف نوكيا المحمولة. هذا البرنامج الحاسوبي الخبيث قادر بأشكال متعددة على إعادة إرسال الرسائل النصية وتسجيل المكالمات الهاتفية وانتزاع التفاصيل من قائمة العناوين الإلكترونية والتعقب عبر نظام تحديد المواقع العالمي بل والاتصال سراً بهاتف محمول وجعله يلتقط حديثاً يجري بالقرب منه وبثه إلى مكان آخر. كذلك اكتشف هذان الباحثان وجود أجهزة خادمة مصممة لاستقبال تقارير من منتجات برنامج فينفيشر ليس في البحرين وحسب، بل وفي بروني وإثيوبيا وتركمانستان والإمارات العربية المتحدة. وقد نفت شركة ‘جاما غروب’ أن تكون قد باعت أياً من هذه البلدان وأشارت إلى أن هذه البرامج قد تكون نسخاً تمت قرصنتها.
ما دامت الحكومات تمتلك القدرة على الدخول إلى البنية التحتية لشبكات الاتصالات عندها، فلماذا تهبط إلى مستوى وضع برامج تجسس على هواتف المراسلين؟ يقترح الباحث بيل ماركزاك أن أحد الاحتمالات هو التغلب على وسائل الحماية التي قد يكون الصحفيون ومصادرهم يستخدمونها. وقال إنه “عندما يرسل الصحفي رسائل إلكترونية (إيميلات) أو رسائل نصية وما إلى ذلك، من هذا الهاتف، يتم تشفيرها في نقطة ما على الشبكة بين هاتفه والجهاز الخادم. وإذا كنت تريد، كحكومة، أن تقرأ هذه الاتصالات، فيتوجب عليك أن تدخل إليها في مكان ما لا تكون فيه مشفرة. لذا فإن الخيارات العملية هي أن تحصل على مذكرة أو أمر قضائي لتقدمها لمزود الخدمة (مثلاً جيميل، وياهو ميل)، أو أن تقرأها… من هاتف الصحفي. ويتيح لك برنامج ‘فينسباي’ القيام بذلك”. من المزايا الأخرى التي يوفرها البرنامج هي القدرة على التجسس على الاتصالات التي تتم خارج البلاد، حيث يمكن تعقب الصحفيين أو المعارضين المبعدين، مثلاً، بنفس السهولة التي يمكن بها تعقب الصحفيين المحليين.
أصبح الصحفيون الذين يواجهون تهديدات رقمية على الشبكة معتادين على حماية أنفسهم باستخدام أداوت مكافحة الفيروسات وتشفير الأقراص الصلبة في أجهزتهم وغيرها من الاتصالات. ولكن الهواتف الذكية المحمولة ليست مصممة بحيث تسمح بإعادة تشكيلها بنفس المقدار – مقارنة بالكمبيوترات الشخصية أو كمبيوترات الماكنتوش، فتصميمها مغلق أمام محاولات المستخدم التي تنقصها البراعة ومفتوح أمام الشركة الصانعة ومزود شبكة الخدمة لأعمال التحكم فيه. ويحاجج مخترعو هذه التكنولوجيا، وهم محقّون إلى حد ما، إن عملية الإغلاق هذه تزيد من حماية المستخدم العادي للهاتف المحمول. ولكن هذا الافتقار إلى القدرة على التحكم، بالنسبة للمراسل الصحفي الذي يواجه مخاطر أمنية، يمكنه أن يزيد الأمور سوءاً. يمكن للحكومات أن تقوم بتركيب البرامج الخبيثة مثل ‘فينسباي’ بينما لا يمكن للمستخدمين الكشف عنها وإزالتها.
حتى الإجراءات الوقائية التي تتخذها الشركات يمكن إساءة استغلالها من قبل قراصنة الكمبيوتر. فقد استُهدف مات هونان، الصحفي في مجلة ‘وايرد’، في آب/أغسطس 2012 من قبل قرصان تمكن من الدخول إلى حساباته على الشبكة بما فيها معلومات تسجيل الدخول إلى حسابه في أبل آي كلاود. وقد سمحت عمليات الدخول عبر الشبكة للقرصان بالاستيلاء على مصدر إرسال التقارير إلى الموقع الإخباري بينما سمح له حساب ‘أبل’ بإغلاق هاتف ‘آيفون’ التابع للصحفي ومسح ما عليه عن بعد.
والسبب وراء انكشاف هاتف هونان للخطر هو وصلة أبل الشخصية مع كل جهاز من أجهزة الآيفون – وهي مقدرة تتيح للشركة العثور على الهواتف المفقودة وإغلاق الأجهزة المسروقة منها وتحديث نظام تشغيل ‘آيفون’. يستخدم مزودو خدمات الهاتف قدرة مماثلة ببراعة، لأغراض حسنة عموماً، ولكن دون أن يتمتع المستخدم النهائي بحق الاعتراض عليها. وقال هونان للجنة حماية الصحفيين في الخريف الماضي “أصبحت الآن مهووساً تماماً بحماية الهاتف المحمول بكل أنواع الطرق بصورة لم أكن عليها قبل شهرين من الآن. إن بياناتنا هي أكثر الموجودات قيمة بالنسبة لنا كمراسلين صحفيين. فعلى الرغم من أنني أستطيع تشفير الملفات الموجودة على كمبيوتري ونقلها إلى أداة تخزين البيانات ‘يو إس بي’ (USB)، التي يمكنني بعدئذٍ حفظها في خزنة، إلا أنه ليس بوسعي البدء بحماية هاتفي بنفس الطريقة”.
قد تزعم الشركات والحكومات أن التعاون من أجل تبادل المعلومات الشخصية حول المشتركين في خدمة الهاتف المحمول ضروري من أجل إنفاذ القانون. ولكن الخدمة العامة السرية والحساسة التي يقوم بها المراسلون تتم حمايتها حتى الآن عن طريق أمر من المحكمة ومذكرات قضائية، على الأقل في البلدان التي تعمل وفقاً لسيادة القانون.
مما يؤسف له أن القوانين التي تنظِّم عملية كشف بيانات شركة الهاتف لا يزال يتعين تحديثها بحيث تأخذ بعين الاعتبار مخزون المعلومات الذي يتم جمعه عن المستخدم وهو مخزون أكبر بكثير من ذي قبل. فالقانون الذي يحكم عملية تسليم هذه البيانات إلى طرف ثالث في الولايات المتحدة هو قانون خصوصية الاتصالات الإلكترونية، وهو قانون تمت كتابته عام 1996، أي في وقت كان ما يمكن لشركات الهاتف أن تقدمه يتمثل في سجلات عن من اتصل بمن أو التسمع على المكالمات عبر توصيلات سلكية.
يقول كيفن بانكستون، المستشار القانوني المتقدم في ‘مركز الديمقراطية والتكنولوجيا’ وهو عبارة عن جماعة مناصرة تتخذ من واشنطن العاصمة مقراً لها، إن هذا القانون “لم يُكتب بكل بساطة لعصر الهاتف المحمول”. ويقول إن السلطات تستغل غموض القانون للضغط باتجاه الوصول على البيانات بصورة أسهل. ويرى بانكستون أن المعايير المتعلقة بالحماية في القانون هي موضع جدل كبير، “وأن دوائر إنفاذ القانون تحاجج دائماً بوجوب تطبيق أدنى المعايير”. يعني ذلك أنه يمكن الحصول على البيانات المتعلقة بالموقع من دون مذكرة قضائية في الولايات المتحدة لأن دوائر إنفاذ القانون تدعي أنه ينبغي معاملة تلك البيانات معاملة بيانات الفواتير. وكثيراً ما يُطلب من الشركات المزودة لخدمات الهاتف في الولايات المتحدة إعطاء “بلوكات” بيانات برج الاتصال – وهي كتل من البيانات الجماعية عن المشتركين الذين كانوا على مقربة من برج معين خلال فترة معينة من الزمن. من شأن ذلك أن يغرف بالجملة قائمة أسماء المتصلين في هواتف المراسلين في أحداث الشغب أو كارثة بنفس الفعالية التي يمكن أن يحصل بها على بيانات تتعلق بمشتبه به في إحدى الجرائم، لكن جهاز الأمن يزعم أن هذه البيانات غير محمية بالقانون، كما أن شركات الهاتف لا تعترض، بالمجمل، على مثل هذه الطلبات. وتسير بلدان أخرى على خطى الولايات المتحدة فيما يتعلق بهذه المعايير.
يقول خبراء الهاتف المحمول إنه ليس ثمة ما يستوجب صنع الهواتف المحمولة بحيث تعمل كأجهزة تجسس منتشرة حتى عندما يتم استخدامها في ظل أنظمة قمعية. يترأس إيريك كنغ بحثاً تجريه منظمة الخصوصية الدولية (برايفاسي إنرتناشنال) التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها. وقد نجح فريقه في ممارسة التأثير على الحكومة البريطانية من أجل تحديد صادرات أدوات ‘فينفيشر’ البرامجية إلى بلدان الشرق الأوسط حيث يمكن استخدامها ضد الصحفيين والمعارضين. وقال إنه يمكن لنفس المقاييس الفنية الغربية – من قبيل تلك التي وضعها معهد مقاييس الاتصالات الأوروبي- التي تشتمل أصلاً على مزايا المراقبة، أن تشتمل أيضاً على ضوابط حماية وقيود ضد سوء استخدام تلك المزايا.
ويقترح كنغ متسائلاً: “لماذا لا يمكن لمقاييس معهد الاتصالات الأوروبي أن تحدد بوضوح عدد الاعتراضات المتزامنة التي يمكن إجراؤها؟ وبحيث لا يكون الباعة متقيدين بمعايير المعهد إلا إذا [كانت معدات الشبكات عندهم] غير قادرة على اعتراض أكثر من نسبة مئوية معينة من المكالمات” ومن الاحتمالات الأخرى الممكنة أن يتم استحداث سجلات مضادة للعبث في الأجهزة عندما يتم استخدام مزايا المراقبة في شبكات الهاتف المحمول. من شأن ذلك أن يجعل من عملية اختلاق أدلة مرتبطة بالهاتف ضد الصحفيين أمراً أكثر صعوبة، وأن تترك دليلاً دائماً على مثل هذه المراقبة (وهوية منفذها) لأغراض التحقيق المستقبلي من قبل صحفيين وقضاة مستقلين.
كما ويمكن للبرامج الخاصة بالمستخدم النهائي أن تساعد أيضاً. وتقول منظمة ‘موزيلا’، وهي الجهة غير الربحية التي طورت متصفح ‘فاير فوكس’، إنها تعكف على بناء هاتف محمول محمي الخصوصية ينافس نظم تشغيل ‘أندرويد’ و ‘أبل’ المتوفرة. وقد أطلق فيل زمرمان، كاتب برنامج التشفير المحدد للكمبيوترات المكتبية، ‘بريتي غود برايفاسي’، مؤخراً خدمة جديدة يقول إنها تحمي مكالمات الهاتف المحمول من الاعتراض. وتوفر أدوات برمجية أخرى، مثل ‘تيكست سيكيور’ من شركة ‘ويسبر سيستمز’، نفس الحماية للرسائل النصية شريطة أن يستخدم كلا طرفي المحادثة الأداة نفسها.
وفي الوقت الحاضر، وعلى الرغم من أنه بوسع الصحفيين اتخاذ بعض الخطوات لحماية أنفسهم ومصادرهم، إلا أنهم مقيدون بسبب طبيعة هواتفهم المحمولة. وفي مناقشة عامة جرت في أيار/مايو الماضي، شرَح الصحفي الاستقصائي ماثيو كول، الذي يعمل على قضايا الأمن القومي الأمريكي وقضايا استخبارية، الطريقة التي ينفذها في عمله باستخدام بروتوكول مُحكم علّمه إياه خبير الحماية الرقمية كريس سوغويان. يستخدم كول هاتفين محمولين تم شراؤهما دون ذكر اسم المشتري ولم يتم استخدامهما معاً وتكون بطارية أحدهما دائماً منزوعة من مكانها لمنع عملية تشغيلها بصورة عرضية ولضمان عدم ربط الرقمين ببعضهما أبداً.
عندما ذكرت هذا البروتوكول لصحفية أخرى تقوم بتغطية موضوعات مماثلة، هي أمبر ليون، أرتني جهاز ‘آيفون’ الجديد الذي اقتنته وأشارت إلى العيب فيه؛ لا يمكن نزع بطاريته. يتعين علينا في المستقبل، أي عندما سيصبح كل العمل الصحفي يتم بأجهزة الاتصال المحمولة، أن نتأكد أننا نستطيع كشف أسوأ العيوب التي تعتري أمن الهاتف المحمول وأن نغلقها.
داني أوبريان، منسق أعمال المناصرة عبر الإنترنت في لجنة حماية الصحفيين ومقيم في سان فرانسيسكو، وعمل على مستوى العالم كصحفي وناشط يغطي أخبار التكنولوجيا والحقوق الرقمية.