بقلم إغناثيو ميغيل ديلغادو كوليبراس
ظل الصحفي الموصلي محمد طلال النعيمي ثلاث سنوات تقريباً يعيش في حالة من الخوف المستمر من أن يتم اكتشاف أمره وقتله. فسقوط الموصل في يد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية أوائل شهر يونيو/ حزيران 2014 واستهداف التنظيم للصحفيين المحليين بعد ذلك، أجبر النعيمي على التواري بعيداً عن الأنظار. ولم يكن النعيمي قادراً على القيام بأي عمل ذي صلة بالإعلام في ظل خطر الاعتقال والإعدام. انزوى النعيمي داخل البيت وكانت حياته خلال فترة الاختباء مليئة بغرفة النوم والرعب، بحسب تعبيره.
وقال الصحفي النعيمي للجنة حماية الصحفيين “كانت حياة مملة. لقد كنت اختلس النظر إلى العالم من خلال ثقب الباب… كثير من أصدقائي اعتُقل أو قُتل، فخشيت على حياتي”.
وقد توصلت لجنة حماية الصحفيين خلال زيارة قامت بها مؤخراً إلى العراق، أن النعيمي كان من ضمن عدد صغير من الصحفيين الذين بقوا داخل الموصل بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها وظلوا فيها إلى أن استعاد الجيش العراقي الجانب الشرقي منها أواخر يناير/ كانون الثاني 2017. والآن، وبعد أن انقضت مرحلة الاختباء بسلام، بات النعيمي يواجه جملة تحديات جديدة، شأنه في ذلك شأن كثير من الصحفيين في الموصل. فبحسب صحفيين وجهات تناصر قضاياهم فإن فرص العمل معدومة وإنه بالرغم من البطء الذي تجري به عملية استعادة الاتصالات في الموصل، إلا أن العاملين في الإعلام يعانون من الرقابة والخوف.
وكان النعيمي قد تلقى تهديدات بالقتل قبل وقت طويل من استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل طالبته بالتوقف عن تغطية الأخبار، وكان يعمل آنذاك مذيعاً في محطة ‘شباب إف-إم’ شبه المستقلة ومحرر الأخبار في قناة ‘سما الموصل’ التلفزيونية -التي كان يملكها ويمولها أثيل النجيفي الذي كان يشغل آنذاك منصب محافظ نينوى. وعلى الرغم من المصاعب المتزايدة التي كان يواجهها الصحفيون -ومن ضمنها استهدافهم بالاغتيال، كما هي الحال بالنسبة لبشار النعيمي أو محمد غانم أو محمد كريم البدراني– تجاهل النعيمي تلك التهديدات واستمر في تغطياته الصحفية والسياسية والأمنية المعتادة. غير أنه أخفى أيضاً هويته على الهواء مستعملاً الاسم المستعار “سرمد” لحماية نفسه وعائلته.
عندما فر الجيش العراقي من الموصل في 10 يونيو/ حزيران 2014، استولى تنظيم الدولة الإسلامية على ثماني محطات إذاعة وتلفزيون محلية وصادر معداتها التقنية، حسب ما ذكره مرصد الحريات الصحفية، وهو منظمة عراقية تُعنى بحرية الصحافة. كما بدأ التنظيم باعتقال الصحفيين والعاملين في الإعلام من خلال مداهمات استهدفت منازلهم وأماكن عملهم. وقال المرصد إنه نتيجة لذلك فر الصحفيون الموصليون من المدينة بصورة جماعية.
وقد حاول النعيمي الفرار من الموصل ثلاث مرات، لكنه لم يفلح. وكاد النعيمي يقع في قبضة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين داهموا منزله ليلاً في يوليو/ تموز لولا تمكنه من الهرب إلى منزل جاره؛ حينها أدرك النعيمي أن محاولته بالاختباء خلف الاسم المستعار كانت بلا نفع. لقد كان مدرجاً على قائمة للتنظيم تضم أسماء أكثر 40 شخصاً مطلوباً بسبب عمله كمذيع في راديو ‘شباب إف_إم’ ومحرراً للأخبار في قناة ‘سما الموصل’.
وفي يوليو/ تموز 2014، بدأ حياة الاختباء في منطقة بعيدة عن منزله.
كانت الاتصالات قد قُطعت في الموصل. وقد أثبت بحث أجرته لجنة حماية الصحفيين سنة 2015 أن تنظيم الدولة الإسلامية عمد، لدى استيلائه على المدينة، إلى احتكار المعلومات في المناطق الواقعة تحت سيطرته فيما أُخضعت الروايات المتعلقة بالحياة داخل الموصل بما في ذلك مصير الصحفيين المفقودين والمختطفين، إلى رقابة مشددة وبالتالي بات التحقق منها أمراً مستحيلاً.
وثمة صحفي موصلي آخر، يفضل التعريف بنسفه بالأحرف الأولى و. م. خشية التعرض للعقوبة، لكنه لم يكن محظوظاً كما النعيمي. وقد عمل و. م. كمصور فوتوغرافي لتلفزيون ‘سما الموصل’ منذ عام 2011، حيث اعتاد على تغطية موضوعات صحفية متنوعة تراوحت بين السياسة والرياضة في مختلف أنحاء محافظة نينوى.
رغم نجاحه في الاختباء لعد أشهر، إلا أنه اقتيد من منزله في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2014 بموجب حكم صادر عن المحكمة الشرعية التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية اتهم صحفيي الموصل الباقين بانتهاك الحظر المفروض على التغطية الإخبارية وتسريب المعلومات لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية، بحسب مرصد الحريات الصحفية.
تم احتجاز و. م. في قبو بغرب الموصل 27 يوماً مع ستة من زملائه العاملين في ‘سما الموصل’. وقال المرصد إن هؤلاء اتُهموا بتزويد تلفزيون ‘نينوى الغد’، الذي يموله المحافظ السابق أثيل النجيفي، بتقارير إخبارية من داخل الموصل. وفي محاولة لحمله على الاعتراف بتسريب معلومات عن الوضع في الموصل، قام مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية بتعذيب و. م. جسدياً ونفسياً، وفقاً لما ذكره الصحفي للجنة حماية الصحفيين، لكنه امتنع عن الإفصاح عن المزيد من التفاصيل.
وفي نهاية المطاف، أُفرج عن و. م. وأربعة من زملائه لعدم كفاية الأدلة. بعدها لزم و. م. بيته إلى أن تمت استعادة شرق الموصل من قبل القوات العراقية، وذلك خشية أن يتم التعرف عليه واعتقاله مجدداً.
في غضون ذلك، ظل النعيمي في مأمن لكنه منعزل عن العالم الخارجي في منزل أحد أقاربه الذي أمّن له الطعام والمستلزمات. ولم يكن بوسعه استخدام الهاتف للتحدث مع أسرته أو أصدقائه خشية أن تتم معاقبتهم. وكانت أسرته تجازف بالخروج إلى شوارع الموصل تحت جُنح الظلام لزيارته.
وقال النعيمي إن “[تنظيم الدولة الإسلامية] فتشوا منزلي ثلاث مرات وهددوا بقتل [عائلتي] إن لم يكشفوا عن مكاني. فأخبروهم بأني هربت إلى بغداد”.
وتحت وطأة الوحدة التي أثرت كثيراً على صلابته وأجواء الاكتئاب التي ظللت حياته، اتجه النعيمي نحو الكتابة. وقال “قرأت كتباً وروايات، وألفت كتاباً آمل أن أقوم بنشره قريباً. لم أتمكن من القيام بعملي كصحفي لأن الصحفيين كانوا يتعرضون للاضطهاد”.
نظرياً، أصبح النعيمي الآن حر الإرادة في أن يعمل، لكنه يقول إنه “لا توجد فرص عمل لصحفيي الموصل. لقد عاد الكثير من الصحفيين لكن لا توجد مؤسسات إعلامية كي تشغّلهم. فقنوات التلفزيون المحلية تبث من خارج المدينة، ولا توجد قنوات إذاعية أو تلفزيونية داخلها. أنا عاطل عن العمل”.
وقال دلوفان برواري للجنة حماية الصحفيين، وهو مدير منظمة الدفاع القانوني للجرائم ضد حرية الصحافة التي تساند الصحفيين العراقيين، إن فرص عثور صحفيي الموصل على عمل ضئيلة في المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية”.
وقال برواري إن “الصحفيين يعانون من التهميش ولا فرصة لديهم للعمل. وغالباً ما يُتهمون بأنهم انضموا إلى [تنظيم الدولة الإسلامية]. ولا يزال مصير عشرات الصحفيين الآخرين من الموصل مجهولاً. ونحن لا نعرف إن كان هؤلاء قد قُتلوا أو سُجنوا أم أنهم مختبئون في منازلهم. أما الصحفيون الذين يعملون الآن من جديد فهم قلة، وربما كانوا أقل من عشرة صحفيين”.
وفي الوقت الذي لا تزال فيه العملية العسكرية على غرب الموصل جارية، حاولت لجنة حماية الصحفيين الاتصال عن طريق البريد الإلكتروني والهاتف بخمسة صحفيين آخرين في الموصل، لكن أحداً لم يرد”.
اعتمد المدنيون في الموصل، تحت حكم تنظم الدولة الإسلامية، بشكل أساسي على القنوات الفضائية لمعرفة الأخبار من العالم الخارجي. ومع بدء اقتحام الجيش العراقي للموصل، بحسب تقارير إعلامية، عمد تنظيم الدولة الذي كان أصلاً قد حظر استخدام الهواتف المحمولة، إلى تقييد إمكانية مشاهدة التلفزيون في مايو/ أيار 2016 وقام بإغلاق جميع الشركات المزودة لخدمة الإنترنت في يوليو/ تموز من السنة نفسها، وبالتالي لم يتبقَ سوى شبكات الهاتف المحمول الضعيفة في ضواحي المدينة كمصدر محتمل للمعلومات، مما فرض تعتيماً إعلامياً بحكم الأمر الواقع.
ومنذ استعادة شرق الموصل، عادت أطباق استقبال بث الأقمار الصناعية لتتكاثر بسرعة فوق أسطح المنازل مما يتيح للسكان تتبع مسار تقدم القوات العراقية في غرب الموصل. وقد أكدت تقارير الأنباء أنه يجري حالياً استعادة خدمات الهاتف الخلوي والإنترنت، غير أنه يتم بين الفينة والأخرى حظر التغطية الإعلامية للعمليات العسكرية. وفي أواخر مارس/ آذار 2017، حظرت السلطات العسكرية العراقية على الصحفيين دخول حي الموصل الجديدة في أعقاب غارة جوية أسفرت عن مقتل 150 شخصاً.
تشكل الرقابة المباشرة من قبل الدولة واحدة من العقبات العديدة التي تعترض سبيل الإعلام.
وقال بشار مندلاوي، ممثل مرصد الحريات الصحفية “لقد تم تدمير كل شيء تقريباً. يحاول الصحفيون الحفاظ على سلامتهم، لكن القناصة والألغام يحولان دون تحركهم بحرية. لا يوجد استقرار وهم لا يستطيعون العودة إلى حياتهم الطبيعية. علاوة على ذلك، لا توجد وسائل إعلام في الموصل، فتلفزيون ‘الموصلية’ مثلاً يبث من أربيل فيما يبث راديو ‘العراق’ من القيارة. وتجري حالياً محاولات لإعادة راديو ‘الرشيد’، وهي محطة إذاعية مستقلة يديرها السياسي العراقي سعد عاصم، ولكن هذا هو كل شيء”.
واتصلت لجنة حماية الصحفيين بسعد عاصم ومحطة راديو ‘الرشيد’عبر موقع فيسبوك والبريد الإلكتروني وطلبت منهم التعليق على هذا الموضوع، ولكن لم يرد منهم رد سريع.
ولا يتوقع مندلاوي أن يتحسن الوضع في الوقت القريب، ويقول “ستظل الموصل غير آمنة بالنسبة للصحفيين في السنين المقبلة. وسوف نرى الكثير من علميات القتل الانتقامية”.
كذلك أشار بروراي، مدير منظمة الدفاع القانوني للجرائم ضد حرية الصحافة، إلى مخاوف من وقوع عنف طائفي، قائلاً إن هناك سؤالين يدوران حول مستقبل الإعلام في الموصل، هما: كيف سيُستأنف العمل دون اشتعال الحرائق الطائفية وكيف ستتم تغطية الأنباء دون الخضوع للضغط السياسي.
أما بالنسبة للصحفي و. م. فإن الشعور بانعدام الأمان لم يغادره بعد.
وقال “أنا لا أزال في الموصل وأعمل مع وكالة أنباء محلية. أتمنى أن أكون في مكان آخر كي أشعر بالأمان. حالتي النفسية صعبة ولا يمكنني نسيان الماضي. أنا لا أشعر بالأمان مطلقاً بسبب الخوف من المستقبل”.
[تغطية من أربيل]