إن الإجراء الإسرائيلي الخاص بالتحقيق في حالات قتل الجيش للمدنيين، كالصحفيين، هو أشبه بصندوق أسود. إذ لا توجد وثيقة سياسات تصف هذه العملية بالتفصيل فيما تظل نتائج كل التحقيقات سرية.
وإذا ما وقعت حادثة أثناء معركة فعلية وأثارت الشكوك بشأن وقوع انتهاك للقانون الدولي، يعمد مكتب رئيس أركان الجيش إلى فتح تحقيق أولي يُعرف باسم “تقييم تقصي الحقائق”. ويتم تمرير النتائج التي يتوصل إليها هذا التقييم إلى المحامي العام العسكري الذي يقرر ما إذا كانت تلك النتائج كافية لفتح تحقيق جنائي في الحادثة. ومنذ أن بُدء بإجراء هذه التقييمات عام 2014، أجرت إسرائيل تقييماً لخمس حالات قُتل فيها صحفيون، إضافةً إلى حالة واحدة وقع فيها قصف واسع النطاق أدى إلى مقتل ثلاثة صحفيين. ولكن لم يفضِ أي من هذه التقييمات إلى فتح تحقيق جنائي.
وكان من المفترض أن تعمل هذه التقييمات على جعل المنظومة العدلية العسكرية منسجمة مع المعايير الدولية، غير أن الكثير من منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والدولية لا يرى فيها سوى تغييرات تجميلية على منظومة ما تزال مصممة من أجل تحصين الجنود من أية مساءلة.
وقد تطول مدة هذه التقييمات التي كان الهدف منها أن تُجرى بسرعة وفاعلية، فتستغرق سنوات، بحسب ما أعربت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “يش دين” وما توصل إليه بحث أجرته “لجنة حماية الصحفيين”. وفي حال أفضى تقييم ما إلى إطلاق تحقيق جنائي –وهي حالة غير مألوفة– يتوجب على المحققين البدء من الصفر حيث لا يمكنهم الاستفادة من أي شيء تم اكتشافه أثناء التقييم، مما يؤدي إلى مزيد من التأخير، بحسب بعض منظمات حقوق الإنسان، وهو تأخير تتضاءل خلاله ذاكرة الشهود وقد تختفي معه الأدلة.
وعندما الانتهاء من إجراء “تقييم تقصي الحقائق” فإنه يذهب إلى مكتب المحامي العام العسكري، وهي وحدة تقول عنها منظمات حقوق الإنسان إنها غير محايدة وغير مستقلة. وأشارت منظمة “يش دين” إلى حالة الصحفي يوسف أبو حسين من “إذاعة صوت الأقصى” التابعة لحركة “حماس” الذي قُتل في منزله بغزة في قصف نفذه الجيش الإسرائيلي عام 2021. وكتبت المنظمة تقول إن مكتب المحامي العام العسكري “كان له يد في الموافقة على السياسة التي صنفت يوسف أبو حسين كهدف عسكري أو توفير الإذن بتنفيذ الضربة التي قتلته أو المساعدة في صياغة معايير التناسبية عند تعرض المدنيين الأبرياء للأذى عند الهجوم على هدف عسكري”. ومع ذلك تم تكليف مكتب المحامي العام العسكري بمهمة تحديد ما إذا كان يتوجب فتح تحقيق جنائي من عدمه في مقتله – وهو ما لم يأمر به في هذه الحالة.
وعن مقتل يوسف أبو حسين، قال الجيش الإسرائيلي في رسالة بعثها إلى “لجنة حماية الصحفيين” عبر البريد الإلكتروني “لقد تم التوصل إلى أن الضربة استهدفت هدفاً عسكرياً مشروعاً وأنها تمت بعد موافقة المسؤولين المعنيين عليها وأنها نُفذت وفقاً لمبدأ التناسبية”، بمعنى أن الجيش ادعى أن ظروف القتل تتماشى مع القانون الدولي.
ومن النادر أن يفتح مكتب المحامي العام العسكري تحقيقاً جنائياً، وإن فعل فإنه يفعل ذلك ببطء شديد. وقد عاينت منظمة “يش دين” سجل إسرائيل في العملية العسكرية لعام 2021 التي أدت إلى مقتل يوسف أبو حسين، أي عملية “حارس الأسوار”، ووجدت أن الجيش، ولغاية سنة بعدها، قد أجرى تقييماً في 84 حادثة، لكنه لم يفتح تحقيقاً جنائياً إلا في حالة واحدة فقط. وحتى ذلك الوقت كانت أغلبية التقييمات لا تزال جارية.
وعندما يتم فتح تحقيق جنائي، فإن الشرطة العسكرية هي من يتولى القيام به. وعلى مرِّ السنوات، انتقدت جماعات حقوق الإنسان هذه التحقيقات لكونها تستند إلى شهادات الجنود دون القيام بجمع الأدلة المادية أو أخذ إفادات الشهود أو بسبب إجراء التحقيقات بعد فترة طويلة من وقوع الحادثة موضوع التحقيق. وقالت بعض جماعات حقوق الإنسان إنه يتم تكليف الوحدات العسكرية المتورطة في الحادثة بمهمة تحديد المشتبه بهم والشهود، الأمر الذي يتم عادة بعد جلسات استخلاص للمعلومات قد يجري خلالها تنسيق الروايات والتدرب على سردها.
وقال حجاي إلعاد، مدير منظمة “بتسليم” الإسرائيلية المعنية بحقوق الإنسان “من المنظور الإسرائيلي، ليس المقصود من هذا [الإجراء] تحقيق المساءلة وحماية حقوق الضحايا – بل العكس من ذلك. وأنا لا أعبّر عن رأي هنا، فلدى منظمة ‘بتسيلم’ معلومات من مصادر داخلية مطلعة فيما يتعلق بتبييض صفحة الجنود في حالات قتل فلسطينيين أكثر مما لدى أي طرف آخر. لقد حققنا في مئات الحالات – وقد قمنا بذلك بينما كنا منخرطين في العمل مباشرة مع السلطات الإسرائيلية”.
غير أن منظمة “بتسيلم” لم تعد تتعاون مع منظومة التحقيق التابعة للجيش الإسرائيلي، إذ قالت في عام 2016 إنها “لن تؤدي بعد اليوم أي دور في المظهر الكاذب الذي تظهر به منظومة إنفاذ القانون في الجيش وإنها لن تحيل إليها أية شكاوى بعد اليوم”.
وقبل أن تدخل الآلية الجديدة حيز التنفيذ قبل تسع سنوات، فتحت إسرائيل تحقيقات أولية، أو أجرت معاينات أولية للغاية، في ما لا يقل عن سبع حالات قُتل فيها صحفيون. وقد تمخضت واحدة منها فقط عن فتح تحقيق جنائي وهي حالة مقتل الصحفي البريطاني جيمس ميلر عام 2003. ولكن أُغلقت القضية لاحقاً دون توجيه السلطات لأية تهم جنائية. ويُذكر أن إسرائيل لم تعلن عن إجراء أي تحقيق بخصوص ما لا يقل عن خمس حالات قتل صحفيين وثقتها “لجنة حماية الصحفيين”.