إجهاض ثورة الفضائيات

إعداد: جويل كامبانيا

تعد مباني الإذاعة والتلفزيون الحكومية من بين أكثر المواقع تحصينا في العالم العربي. وفي الرياض، ستجد حراسا مسلحين، وأكياس الرمل، وسياجا من الحديد السميك يحيط بمبنى وزارة الإعلام السعودية ومقر التلفزيون السعودي. وعندما كانت الحكومة المصرية في التسعينيات تخوض مواجهة وحشية ضد المتطرفين الإسلاميين، نشرت الحكومة الدبابات حول مبنى الإذاعة والتلفزيون في وسط القاهرة. وعلى الرغم من أن الصحف لها أهميتها في نشر الأخبار وإبداء الرأي، إلا أن التلفزيون له تأثير واسع في أرجاء العالم العربي. ومع قدرة التلفزيون على الوصول إلى الجماهير في المنطقة التي ترتفع فيها معدلات الأمية ، فلا عجب أن الأنظمة تشدد الحراسة على هذا الوسيط الاستراتيجي. الآن، ومع ظهور الفضائيات باعتبارها وسيلة جماهيرية لنقل الأخبار والتحليلات النقدية، فإن ثمة جبهة جديدة في النضال من أجل حرية الصحافة قد ظهرت.

لم تكن وسائل البث العربية في السابق سوى عالما من البرامج الإخبارية “الطنانة”، ومنبرا للدعاية للدولة، وهو ما استمر حتى مطلع التسعينات حينما ظهرت جهات إخبارية فضائية جديدة مثل قناة الجزيرة القطرية. وعلى الرغم من كونها هدفا دائما للرقابة الحكومية والمضايقات، كانت قناة الجزيرة قادرة على أن توفر أخبارا ونقاشات سياسية غير خاضعة للرقابة للملايين من العرب. واليوم ، تنامى عدد محطات البث الفضائي حتى بلغ المئات، وقفز عدد مشاهديها إلى عشرات الملايين حيث أصبحت إمكانية مشاهدة تلك الفضائيات أقل كلفة. ورغم أن العديد من المحطات لا تزال مملوكة من قبل الحكومات أو مدعومة حكوميا بشكل أو بآخر (بما في ذلك قناة الجزيرة)، فقد شهدت المنطقة نموا ملحوظا في الخطاب الإعلامي المنفتح.

قد يبدو هذا الاتجاه كأنه لا رجعة فيه، ولكن الحكومات قد عملت بجد في السنة الماضية لتبديد هذا المفهوم. ومع عدم الارتياح الحكومي لتغطية الفضائيات للخلافات السياسية العربية، والإرهابوالحروب الأهليةوالمصاعب الاقتصادية ، باتت الحكومات تحاول استعادة السيطرة على وسيط إعلامي يعتقدون أنه أصبح خارج السيطرة.

وفي شباط/فبراير تم إرسال رسالة جماعية قوية بمبادرة مصرية وسعودية حيث تقدمت الدولتان بطرح لإطار تنظيمي لمحطات التلفزيون الفضائية في اجتماع وزراء الإعلام لجامعة الدول العربية في القاهرة. صدرت الوثيقة بعنوان “مبادئ تنظيم البث الإذاعي والتلفزيوني الفضائي في المنطقة العربية” وقد استهدفت على نحو واضح المحطات المستقلة والمملوكة للقطاع الخاص التي تبث انتقادات للحكومات العربية.

وافق مجلس وزراء الإعلام العرب الذي يضم 22 عضوا على الوثيقة دون معارضة، فيما امتنعت قطر وغابت العراق عن التصويت. يسعى الميثاق إلى منع أي محتوى قد يكون ذا “تأثير سلبي على السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العام والآداب العامة”، وكذالك ما يمكن أن “يتناقض مع مبادئ التضامن العربي.” كذلك اعتبر الميثاق “التشهير بالقادة أو الرموز الوطنية والدينية” أمرا خارجا عن الحدود.

دعت الوثيقة كلا من الدول الأعضاء إلى اتخاذ “التدابير التشريعية اللازمة للتعامل مع الانتهاكات”، وهي الخطوات التي يمكن أن تشمل مصادرة المعدات وسحب التراخيص. ولم يتضح على الفور كيف ستضع كل حكومة القيود الجديدة في حيز التنفيذ، ولكن الكثير من الحكومات تبدو على استعداد لتنفيذ المبادئ التوجيهية.

تم بناء الزخم منذ حرب لبنان عام 2006 لاتخاذ إجراءات ضد وسائل الإعلام الفضائية الصناعية ، وهو ما يؤكده مروان كريدي الخبير في الإعلام العربي في جامعة بنسلفانيا، في مقال كتبه في آذار/مارس لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي. فقد وجد العديد من القادة العرب أن مواقفهم باتت – على نحو غير مريح – مخالفة للرأي العام الذي كان آخذا في الانتشار والتوسع من قبل الفضائيات. وأضاف قائلا: “عندما اندلعت أعمال القتال، ندد الزعيمان المصري والسعودي أولا بسلوك ‘المغامرة’ لدى حزب الله، ثم تراجعا في ظل مقاومة حزب الله وتزايد عدد الضحايا المدنيين للهجوم الإسرائيلي. وفي غضون ذلك، برز تلفزيون المنار التابع لحزب الله ليحتل مكانه في قائمة أفضل عشر فضائيات في التصنيفات العربية ، ويذكر كريدي فيما كتبه أن بعض مقدمي البرامج الحوارية التي تبث على الهواء حاولوا جاهدين منع المتصلين من إهالة الشتائم على القادة العرب الموالين للولايات المتحدة”.

كانت حالة الإحباط الشعبي من الأنظمة العربية حافزا قويا لدى السلطات للسيطرة على الفضائيات. وفي حزيران/يونيو، بدأت السلطات المغربية في تفعيل روح الميثاق عندما قامت بتغريم رئيس مكتب قناة الجزيرة حسن راشدي مبلغ 50 ألف درهما (6000 دولارا) بتهمة بث أخبار كاذبة بعد أن ذكرت المحطة أن قوى الأمن قتلت متظاهرين خلال احتجاجات في الشوارع في مدينة سيدي إيفني. وقبل شهر واحد ، كانت السلطات قد أجبرت المحطة على إيقاف البث المباشر لبرنامجها الإقليمي الذي يبث من الرباط من دون توضيحات.

بيد أن التراجع الأكبر حدث في مصر، والتي تتمتع بقيادتها التقليدية في مجال الإعلام العربي، وربما كذلك هي مركز الريادة والتوجيه لحرية الصحافة في المنطقة. ففي نيسان/أبريل، قررت شركة البث الفضائي “نايل-سات” المملوكة للحكومة المصرية التوقف عن بث قناة الحوار دون إبداء الأسباب. كانت قناة الحوار تقدم عددا من البرامج الحوارية مثل “حقوق الناس” ، الذي استضاف ناشطين في مجال حقوق الإنسان ممن تعرضوا للمضايقة أو الاضطهاد من قبل الحكومات العربية، وبرنامج “أوراق مصرية”، الذي استضاف منتقدين بارزين للحكومة المصرية مثل إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور، والقاضي الإصلاحي هشام البسطويسي.

يتركز جزء كبير من قلق الحكومة المصرية على تغطية الفضائيات للاضطرابات الاجتماعية. فقناة الجزيرة ومعها البرامج الحوارية المصرية الجريئة التي تبثها محطات فضائية خاصة، ركزت على مواضيع حساسة مثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وانعدام الخدمات العامة ومياه الشرب، والمئات من الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات التي هزت البلاد على مدى العامين الماضيين.

“لعبت محطات التلفزيون هذه دورا هاما في تغطية التظاهرات والاعتصامات”، على حد قول الصحافي المصري وائل الإبراشي، مقدم البرنامج الحواري “الحقيقة” على دريم 2، وهي قناة فضائية خاصة. وأضاف: “إن السلطات تخشى من انتشار ثقافة الاحتجاج، وخاصة في ظل عجز وسائل الإعلام الرسمية … أصبحت المحطات التلفزيونية الفضائية المصدر الرئيسي لزيادة الوعي وتشكيل الرأي العام “.

وفي 23 شباط/فبرايرالماضي ، تم منع قناة المحور المملوكة للقطاع الخاص من بث برنامج “90 دقيقة” ، قبل ساعتين فقط من موعد بثه على الهواء مباشرة، حيث كان موضوع الحلقة مشروع قانون مكافحة الإرهاب. ويعاني منتجو البرامج الحوارية الأخرى في محطات التلفزيون المصرية الخاصة من ضغوط – وراء الكواليس – من أجهزة الأمن.

تعرضت الجهات الإخبارية الإقليمية لضغوط مماثلة أيضا. ففي آب/أغسطس ، قامت الحكومة المصرية بمنع تصوير أحد برامج البث المباشر على قناة “الحرة” التي تمولها الحكومة الأمريكية كان سيظهر فيه عدد من النشطاء لأجل الديمقراطية. وفي نيسان/أبريل ، داهمت الشرطة مكاتب شركة إنتاج إعلامي محلية وهي “شركة القاهرة للأخبار”، التي توفر الخدمات للقنوات الإخبارية مثل الجزيرة وهيئة الاذاعة البريطانية (BBC) ، وصادرت معدات خاصة بالعمل الإعلامي. وتمت إحالة مدير الشركة نادر جوهر إلى المحكمة بحجة أنه لا يملك التصاريح المطلوبة للبث. بينما يُعتقد أن السبب الحقيقي للحملة هو تغطية قناة الجزيرة – وهي أحد عملاء شركة القاهرة للأخبار – للاحتجاجات العمالية في مدينة المحلة الكبرى الصناعية في شمال البلاد، والتي تضمنت لقطات لمتظاهرين قاموا بتمزيق ملصق للرئيس حسني مبارك. تم الحكم لاحقا على جوهر بغرامة 150 ألف جنيها مصريا (27000 دولارا) ، على الرغم من أن شركته لم تتوقف عن العمل.

منذ نحو خمس سنوات فقط كان يمكن للحكومات أن تتغاضى عن تغطية الفضائيات لأنها كانت تصل إلى شريحة صغيرة فقط من السكان. ومن ثم كانوا يركزون بدلا من ذلك على الحفاظ على إحكام قبضتهم على البث الأرضي. ولكن اليوم باتت محطات التلفزيون الفضائية – وخصوصا في مصر – وسيلة إعلام جماهيرية. فبواسطة كابل صغير يكلف ما يعادل 4 دولارات أمريكية يمكن للأسرة الاستفادة من شبكات الأقمار الصناعية وتوفير فرص الحصول على الموجات غير الأرضية. أصبح المصريون ينتظرون بشغف كل يوم البرامج ذات الشعبية الكبيرة مثل “90 دقيقة” ، و “القاهرة اليوم” ، و “العاشرة مساءًا” التي يتم بثها على محطات فضائية محلية وتناقش القضايا التي تمس الحياة اليومية للناس العاديين.

يقول محمود سعد أحد مقدمي برنامج “البيت بيتك” الذي تنتجه شركة خاصة وتبثه إحدى قنوات التلفزيون الحكومي المصري: “قبل ثلاث سنوات ، كان البث التلفزيوني الأرضي هو الأكثر تأثيرا على الشعب المصري ، ولكن الآن 70 في المائة من الشعب المصري يشاهدون المحطات التلفزيونية الفضائية. لا يتكلف الأمر سوى 20 جنيها مصريا للحصول على «وصلة» تتيح الحصول على هذه المحطات التلفزيونية الفضائية. من ثم لم يعد لدى الحكومة ذلك التأثير على وسائل الإعلام، ولهذا السبب فإنها تحاول مجددا استعادة السيطرة”.

الميثاق الذي اعتمده وزراء الإعلام العرب يحمل في المقام الأول رسالة إلى الفضائيات مفادها أن الحكومات على استعداد للدفع في الاتجاه المضاد. ولكنه أيضا يقدم للحكومات العربية زخما وهيكلا قانونيا لفرض قيود محددة. كانت السلطات المصرية قد بدأت بالفعل في صياغة تشريع جديد لبث المواد السمعية والبصرية والذي من شأنه منع جهات البث الفضائي من إذاعة المواد التي تعتبر ضارة بالوحدة الوطنية والنظام العام. مشروع القانون هذا – والذي لم يتم الانتهاء منه خلال السنة الماضية – من شأنه أن يسمح للحكومة بمعاقبة المحطات المخالفة بفرض الغرامات ومصادرة المعدات، أو الإغلاق.

وسيتضح أكثر في السنة المقبلة ما إذا كانت ثورة الفضائيات العربية ستستمر، أو أن الحكومات ستتمكن من فرض سطوتها على هذا الوسيط. وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ ، فستحاول السلطات على الأرجح انتقاء بعضا من جهات البث الفضائي لتكبلها بالرقابة والمضايقة، وكذالك ستحاول فرض قوانين جديدة مقيدة، وإحباط جهود هادفة لخصخصة الإذاعة والتلفزيون.

لكن السلطات قد تجد نفسها تسبح ضد تيار توقعات المشاهد. فالمحتوى الإعلامي أحادي الجانب، والذي يقدم بعدا واحدا للصورة ليس من المرجح أن يرضي المشاهدين العرب بعد الآن. ويمكن لأنصار حرية البث الأثيري أن يستفيدوا من ارتفاع سقف التوقعات الشعبية الذي أصبح يتزايد في كل دول المنطقة الآن، لمكافحة التشريعات المقيدة لحرية الإعلام. يمكن للمستثمرين الدفع نحو إعلاء الجودة وخلق تنوع أكبر في المحطات الفضائية. ويمكن كذلك لأطراف كالولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وغيرها، كجزء من مشاركتها في الدفع نحو الإصلاح السياسي، أن تسعى نحو تحقق خصخصة حقيقية لجهات البث الإعلامي، وليس مجرد إصلاحات تجميلية تجعل المقربين من الأنظمة في وضع يسمح لهم بالسيطرة على موجات الأثير.

كان جويل كامبانيا كبير منسقي البرامج في لجنة حماية الصحفيين وكان مسئولا عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد كتب تقارير من مصر وتونس في عام 2008.