جيسون ستيرن/ باحث متقدم في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في لجنة حماية الصحفيين
أتت المكالمة الهاتفية عندما كنا في ذورة محادثتنا حول تصاعد القمع ضد وسائل الإعلام الأردنية. اعتذرَت لينا عجيلات، وهي من مؤسسي الموقع الإلكتروني الإخباري ‘حبر’، وقالت إنها مضطرة للرد على الهاتف. وكان المتصل محامي ‘حبر’ للتحدث بشأن مسألة مهمة. فهذا الموقع الإلكتروني يكافح منذ سنوات ضد التعليمات الجديدة التي تقتضي من جميع المواقع الإخبارية الأردنية التسجيل لدى السلطات الحكومية. وقد شاهدتُ عجيلات عندما تلقت الخبر بأن هذا الكفاح وصل إلى نهايته، إذ سيتعين على موقع ‘حبر’ دفع غرامة قدرها 1,000 دينار أردني (ما يعادل 1,400 دولار) بسبب العمل دون ترخيص.
لم يكن هذا القرار مفاجأة لعجيلات، كما لم يشكل مفاجأة لعشرات الصحفيين والمحللين الأردنيين الذين التقيت بهم في إطار البعثة التي أوفدتها لجنة حماية الصحفيين في أواخر فبراير/شباط. فجميعهم قالوا الشيء نفسه: السنة الماضية كانت أسوأ سنة يتذكرونها بالنسبة لحرية الصحافة في الأردن، ومع ذلك لم يهتم العالم بذلك، إذ يتركز الانتباه على الأزمات العديدة التي اجتاحت المنطقة.
إلا أن الصحفيين الأردنيين مهتمون بالأمر، فخلال العام الماضي احتجزت السلطات 11 فرداً من زملائهم، حسب أبحاث لجنة حماية الصحفيين. وقال لي الصحفي المخضرم والخبير الإعلامي يحيى شقير، “لم أشعر بمثل هذا التأثير المخيف على مر السنوات الثلاثين الماضية”.
وما كان يجب أن تنتهي الأمور إلى هذه الحال، فمع امتداد الربيع العربي قبل خمس سنوات، قامت الحكومة الأردنية بعدة خطوات إيجابية، بما فيها تأسيس لجنة للحوار الوطني وتأسيس محكمة دستورية. وفي مارس/آذار 2011، وجّه الملك عبد الله الثاني الحكومة لإعداد استراتيجية إعلامية “تقوم على قاعدتي الحرية والمسؤولية” لخدمة الأردن “كوطن حرية وإبداع، يقبل الرأي الأخر ويحترم التعددية والعدالة وسيادة القانون”.
بيد أن القوى الرجعية في الحكومة قاومت هذا التوجه، وأقرت سلسلة من التعديلات التي عملت على إحكام السيطرة على الإعلام الأردني. وفي البداية أقرت الحكومة تعديلات عام 2012 لقانون المطبوعات والنشر، التي أجبرت جميع المواقع الإلكترونية الإخبارية على التسجيل لدى الحكومة. ثم عملت الحكومة في عام 2013 على حجب مئات المواقع الإلكترونية التي لم تمتثل لهذه التعديلات.
وقالت لينا عجيلات، “لقد حاولنا مكافحة القانون كي نعبّر عن موقف أخلاقي ضد الرقابة”، ولكن مع استمرار هذا الكفاح لمدة سنتين، قالت إنها بدأت تتساءل ما إذا كان ينبغي “أن نكرس مواردنا للتعبير عن موقفنا أم ينبغي علينا أن نعود إلى العمل وإنتاج المحتوى الإخباري والوصول إلى جمهورنا؟”
على الرغم من العيوب التي تعتري تعديلات قانون المطبوعات والنشر، إلا أنها على الأقل منعت احتجاز الصحفيين على خلفية قضايا تتعلق بالصحافة، والتي باتت الآن تشمل المواقع الإلكترونية الإخبارية المسجلة بموجب القانون. ولكن في عام 2014، قام البرلمان بتعديل قانون مكافحة الإرهاب ووسع نطاقه ليشمل الأنشطة على شبكة الإنترنت. وفي عام 2015، أصدرت الحكومة قراراً يقضي بأن قانون الجرائم الإلكترونية يلغي حظر احتجاز الصحفيين بموجب قانون المطبوعات والنشر.
وتتيح هذه التغييرات للحكومة من الناحية العملية أن تختار بحسب مشيئتها متى تمنح الصحفيين الحماية التي يوفرها قانون المطبوعات والنشر، ومتى تعاملهم كما تعامل المشتبه بهم بممارسة الإرهاب أو مرتكبي الجرائم الإلكترونية.
هذه القوانين هي جزء من شبكة محيرة مؤلفة من أكثر من 20 قانونا ونظاما يحكم الإعلام في الأردن، حسب تقريرأصدرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام 2015 بعنوان “تقييم تطور الإعلام في الأردن”. وتحتوي هذه القوانين والأنظمة العديدة على أحكام متناقضة وصياغة مبهمة تفتح الباب أمام التطبيق التعسفي للقانون.
وأخبرني صحفي طلب عدم الكشف عن هويته خشية من تعرضه للعقاب، “الأمر يشبه المشي في الضباب، فأنت لا تعلم أبداً ما الذي سيتسبب لك بمشكلة. فعلى الأقل بموجب الأحكام العرفية، كنت تعلم ما الذي يدخلك في مشاكل. ولكن لم يعد هناك أي نمط. وهذا هو بالضبط الغرض من القانون. فهم يعتمدون استراتيجية مقصودة تتيح للحكومة التصرف بأسلوب تعسفي”.
وأعربت الصحفية جمانا مصطفى التي تعمل مع الموقع الإلكتروني ‘عرمرم‘ عن تأييدها لهذا الرأي، وقالت لي، “لا يمكنك أن تتوقع متى سيوجهون لك اتهاماً أو بموجب أي قانون”.
وقد وثقت لجنة حماية الصحفيين قضايا 11 صحفيا جرى احتجازهم في العام الماضي بموجب قوانين مكافحة الإرهاب أو قانون الجرائم الإلكترونية أو قانون العقوبات، بسبب جرائم مثل نشر أخبار كاذبة، وإلحاق الضرر بالعلاقات الخارجية للأردن، وإهانة الحكومة، والتشهير. وشكل هذا العدد من الاعتقالات تصعيداً كبيراً مقارنة مع السنوات الماضية حيث كان من النادر أن تقوم السلطات باحتجاز صحفيين. ولم ينجو من هذه الممارسات حتى الصحفيين الذين يعملون في وسائل الإعلام التي تملكها الحكومة أو وسائل الإعلام التي تعتبر مقرّبة من الأجهزة الأمنية.
وقالت لينا عجيلات، من الموقع الإلكتروني ‘حبر’، “في الغالب تصدر المحكمة أحكاماً بالبراءة على الصحفيين الذين يمثلون أمامها، إلا أن عملية المثول أمام المحكمة تشكل عقاباً بحد ذاتها، لا سيما إذا تعرض الصحفي أثناءها للاحتجاز”.
تمثل عمليات الاحتجاز رسالة أيضاً لسائر الصحفيين. فقد أجرى مركز حماية وحرية الصحفيين، وهو مركز محلي مستقل، استطلاعا بين الصحفيين في عام 2014 ووجد أن 95 في المائة من الصحفيين الأردنيين أفادوا بأنهم يمارسون الرقابة الذاتية.
وقالت رنا الصباغ، رئيسة منظمة ‘إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية’، وهي منظمة إعلامية تتخذ من عمان مقراً لها تعمل على تعزيز الصحافة الاستقصائية في الشرق الأوسط، “لولا الرقابة الذاتية لرأينا عددا أكبر من الصحفيين في المحاكم أو في السجن”. وقالت إنها لم تشهد هذا القدر من الرقابة أثناء عملها في المهنة منذ 33 عاماً، وأضافت “على النقيض مما يحدث في بلدان أخرى، فهذه المنظومة لا تعمد إلى إسكات الأصوات الناقدة، ولكن بوسعها كبحها عاطفياً”.
وتتفق الصحفية جمانا غنيمات مع هذا الرأي، وهي رئيسة تحرير الصحيفة اليومية المستقلة ‘الغد’، وتقول إن وظيفتها كمحررة تتمثل في تحدي الخطوط الحمراء التي تضعها الحكومة ويفرضها المجتمع، ولكن أيضاً أن تحافظ على مسيرة الصحيفة في نفس الوقت، “أنا صحفية، لكنني لا أرغب بوأد مسيرتي المهنية. فعليّ دائما أن أفكر في كيفية المحافظة على الصحيفة دون أن تواجه أزمة”.
وأفاد العديد من الصحفيين الذين قابلتُهم أن جزءاً من هذه المنظومة يتعلق بالجمهور وليس فقط الحكومة، إذ أذعن الجمهور إلى حد بعيد إلى القيود المفروضة على الإعلام، أو حتى أيّدها. فهذا الجمهور في بعض الحالات هو من يعبر عن سخطه عندما تتناول الصحافة القضايا الأكثر حساسية، بما فيها الدين، والثقافة، والعلاقة مع إسرائيل، حسبما أخبرني عدة صحفيين. وأفادوا أيضاً أن الجمهور يعتبر الصحافة الأردنية بأنها غير مهنية وغير أخلاقية، كما أن العديد من الصحفيين اتهموا زملائهم بالتضليل ونشر الشائعات والفساد، وحتى الابتزاز.
وينشأ هذا الإذعان الشعبي للرقابة أيضاً من الخشية من انعدام الاستقرار الاقتصادي والإرهاب، ومن الخوف من أن يتدهور الوضع في الأردن إلى ما وصل إليه الوضع في سوريا، حسبما قال لي صحفيون. وفي وسط هذا الخوف، يبدو أن العديد من الأردنيين قبلوا بالخطاب الحكومي بأنه يجب تقييد الحريات من أجل مصلحة الأمن الاقتصادي والأمن الشخصي.
وكانت النتيجة هي لا مبالاة جماعية كلما تعرض صحفي للاعتقال، وجمهور تناسى كيف أن الصحافة الجيدة تعالج القضايا نفسها التي يخشاها.
وكما قال لي محلل سياسي طلب عدم الكشف عن هويته خشية من تعرضه للعقاب، “إذا كانت حرية الصحافة قضية تخص الصحافة فقط، فستكون مسألة مهمة للصحفيين فقط. بيد أن حرية الصحافة هي حرية للمجتمع. وثمة من يعتقد بأن الصحفيين يطلبون معاملة تفضيلية، لكن في الواقع يمثل الإعلام وسيلة للتغيير والوعي والإصلاح”.
وهذا وضع مُحبط للعديد من الصحفيين الأردنيين الذين يبذلون جهودا كبيرة يوميا لنشر تغطية صحفية ناقدة ومنصفة في نفس الوقت. وقد عبّرت الصحفية جمانا مصطفى من الموقع الإلكتروني ‘عرمرم’ عن هذا الإحباط عندما التقيت معها في مقهى أرسطو الذي افتتحته قبل بضعة أشهر. وقالت “أتصدّق أننا أصبحنا نعُتبر أشراراً لأننا طالبنا بحريتنا! الناس لا يريدون الكثير من حرياتهم. والحكومة تحتاجنا كديكور للظهور بمظهر الديمقراطية. ولكن ماذا سيحدث إذا توقفنا عن الكفاح بسبب الاكتئاب؟ ستتهاوى هذه الصورة المنشودة”.
وتعمل الحكومة الأردنية بحرص على تكوين صورة عن الأردن بوصفه شريكاً دولياً أساسياً يسير على مسار محسوب للإصلاح. ونادرا ما يتم تحدي هذه الصورة علناً من قبل الولايات المتحدة والحلفاء الرئيسيين الآخرين الذين يضعون اعتبارات الأمن فوق كل اعتبار، وفقاً لما قاله نضال منصور، رئيس مركز حماية وحرية الصحفيين. ويقول، “الربيع العربي انقضى وحل محله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. وما عاد المجتمع الدولي يهتم بحقوق الإنسان إذ أخذ يدعم الأردن العالق بين مناطق ملتهبة”.
لقد وثقت وزارة الخارجية الأمريكية الانتهاكات ضد الصحافة في تقاريرها السنوية حول حقوق الإنسان، وعادة ما تثير هذه القضايا في الاجتماعات الخاصة، إلا أن بيئة حرية الصحافة تتدهور بسرعة.
وكما أخبرني المحلل السياسي الذي أشرنا إليه أعلاه، “الأردن معروف بأنه بلد معتدل. وفي حين تملك البلدان الأخرى موارد طبيعية، إلا أن هذا الاعتدال هو كل ما لدينا. وإذا خسرناه فإننا سنخسر كل شيء”.
[تغطية من عمان]
التسلسل الزمني للاعتقالات