الاعتداءات على الصحافة في العام 2009 : مقدمة


جويل سايمون

هل ما زال أسلوب “إعلان أسماء منتهكي الحقوق ووصمهم بالعار” فعالاً في عصر الإنترنت؟ فالمذبحة التي راح ضحيتها 31 صحفياً وإعلامياً في الفلبين في عام 2009 رفعت عدد القتلى الإعلاميين إلى أعلى مستوى تسجله لجنة حماية الصحفيين. كما ارتفع عدد الصحفيين السجناء بفعل حملة القمع الشرسة في إيران.

ما فتئت الإستراتيجية القائمة على إعلان أسماء منتهكي الحقوق ووصمهم بالعار تشكل إحدى السمات المميزة لحركة حقوق الإنسان الدولية منذ أكثر من ثلاثة عقود. وتقوم هذه الإستراتيجية على المنطق القائل بإن الزعماء وحتى أكثرهم وحشية يودون إخفاء إجراءاتهم القمعية أو تبريرها على الأقل. فإذا كان من الممكن كشف الانتهاكات من خلال تقارير موثقة بدقة، وإذا كان بوسع تلك التقارير أن تفضي إلى تغطية في وسائل إعلامية دولية كبرى، فإن من شأن ذلك أن يجبر الحكومات على لجم سلوكياتها الأكثر فظاعة.

لقد أثبتت هذه الإستراتيجية نجاعتها بشكل استثنائي منذ عقد السبعينات وحتى التسعينات من القرن الماضي حين كان المراسلون الأجانب بمثابة المتحكمين بمرور المعلومات والذين من خلالهم كان يتشكل الرأي العام حول الأحداث الجارية في بلد معين. وكان هذا في وقت كانت افتتاحية واحدة في صحيفة كبرى مثل نيويورك تايمز أو واشنطن بوست قادرة على أن تحشد الرأي العام وتفضي إلى تغير في السياسة. أما الآن فقد ولّت تلك الأيام.

يتيح المشهد الإعلامي الراهن المتسم بالتشظي والانتشار فرصاً جديدة للقيام بحملات في مجال الدعوة، حملات توحِّد الاهتمامات المحلية والدولية وتستخدم المدونات والبريد الإلكتروني ووسائل الإعلام الاجتماعية في تشكيل الرأي العام. فمع تضاؤل سلطة وسائل الإعلام التقليدية، أصبح إيصال الرسائل عملية مضنية تتطلب استخدام أساليب متعددة. وهذا هو الحال سواء في الحملات السياسية أو في تسويق الأفلام أو في النضال من أجل ضمان حقوق الإنسان للصحفيين العاملين في بلدان قمعية.

أما النبأ السار فهو أن هذه الإستراتيجيات الجديدة قد أثبتت فعاليتها حتى في أماكن غير متوقعة. ولا زالت الحكومات، بما فيها الأكثر عصياناً وقمعاً، تستجيب للضغوط الدولية.

ففي إيران، مثلاً، حيث جرت واحدة من أشرس حملات التضييق وأوسعها نطاقاً على الصحافة في الماضي القريب، تم اعتقال أكثر من 90 صحفياً بهدف قمع المعارضة في أعقاب انتخابات حزيران/ يونيو الرئاسية المتنازع عليها. وعندما أجرت لجنة حماية الصحفيين إحصاءها السنوي للصحفيين السجناء في الأول من شهر كانون الأول/ ديسمبر، كانت إيران لا تزال تحتجز 23 كاتباً ومحرراً، ويأتي هذا العدد في المرتبة الثانية بعد الصين. وكان من الممكن أن يكون أسوأ.

لقد أيقنت القيادة المتشددة الملتفة حول الرئيس محمود أحمدي نجاد بأنها سوف تدفع ثمناً باهظاً من ناحية الرأي العام الدولي لقاء أساليبها العنيفة والوحشية، وهو تحديداً سبب إيقافها نشاط الإعلام الأجنبي في طهران وطرد الصحفيين والسعى لتضييق الخناق على ما بقي من مكاتبهم. فلقد اعتبر القادة الإيرانيون وسائل الإعلام جزءاً من مؤامرة دولية لإضعاف الثقة في الانتخابات وإسقاط النظام. وكان حبس الصحفيين جزءاً من هذا الوهم القائم على هاجس الارتياب.

بيد إن كافة الفصائل في إيران لم تنظر إلى هذا الوضع بالطريقة نفسها. فثمة من يكترث كثيراً داخل الحكومة الإيرانية بما يفكر به العالم، أو جزء منه على الأقل، حيال النظام في إيران. إذ تدعم الحكومة الإيرانية شبكة تلفزة متطورة ناطقة باللغة الإنجليزية تعرف بمحطة “برس تي في” وتستهدف أهل الفكر في العالم وتعمل كأداة في الحرب الفكرية مع الغرب.

فمن خلال تسليط الضوء على الصحفيين المعتقلين في إيران عبر رسائل البريد الإلكتروني والمقابلات الإعلامية والمدونات والمناشدات على موقع فيس بوك وغيرها من الأساليب المتنوعة، قدمت لجنة حماية الصحفيين للإيرانيين الذين يكترثون لانحدار سمعة بلدهم دولياً حججاً يدفعون بها في مواجهة العناصر المتشددة. ورغم صعوبة تبين آلية هذا التفاعل، إلا إنه ما من شك في أن الضغط الدولي قد لعب دوراً في إطلاق سراح صحفيين بارزين مثل مراسل مجلة نيوزويك مازيار بهاري والصحفية المستقلة روكسانا صابري.

كما أدت حملات عامة مماثلة إلى إطلاق سراح صحفيين معتقلين في بلدان عديدة مثل بورما التي أطلقت سراح ثلاثة صحفيين في إطار عفو عام عن معتقلين سياسيين، وغامبيا حيث عفى زعيم البلاد المستبد والحساس للانتقادات عن ستة صحفيين أدينوا بتهمة زرع الفتنة وهي تهمة لا أساس لها من الصحة. وبالمحصلة، ساهمت جهود الدعوة التي قامت بها لجنة حماية الصحفيين في الإفراج عن 45 صحفياً سجنوا في عام 2009.

لقد أصبح للمدافعين عن حرية الصحافة أن يصلوا إلى جمهور أكبر وأن يستخدموا أساليب متنوعةً أكثر من أي وقت مضى. وهذا يعني التعاون مع المجموعات الصحفية المحلية وصياغة رسائل محددة إلى الجماهير المحلية والدولية. ففي غامبيا، أخذت نقابة صحفية محلية زمام المبادرة وبحزم من أجل استنهاض الغضب الشعبي محلياً، في حين ساهمت تدوينات لجنة حماية الصحفيين ورسائلها عبر موقع تويتر والبريد الإلكتروني في حفز صدور موجة من الإدانات في إفريقيا على مواقع الإنترنت التي تعنى بالشأن الإفريقي ومناشدات علنية من مسؤولين أمريكيين وبريطانيين.

كما حققت هذه الإستراتيجيات الجديدة نجاحات حتى في الفلبين حيث عانت الصحافة الحدث الأكثر دمويةً من بين الأحداث التي سجلتها لجنة حماية الصحفيين على الإطلاق.

تضطلع لجنة حماية الصحفيين بحملة لمناهضة الإفلات من العقاب في الفلبين بدعم من “مؤسسة جون س. وجيمس ل. نايت” وبشراكة مع الجماعات المحلية هناك. وفي آذار/ مارس 2009، وإحياءً للذكرى الرابعة لمقتل المحققة الصحفية المعروفة مارلين جارسيا-إسبيرات، سافرت بعثة لجنة حماية الصحفيين إلى مانيلا للإعلان عن مؤشر الإفلات من العقاب الثاني الذي تصدره اللجنة وهو تصنيف عالمي سنوي للبلدان التي تعجز عن تقديم قتلة الصحفيين للمثول أمام القضاء.

وقد احتلت الفلبين المرتبة الأخيرة على سلم البلدان الديمقراطية في زمن السلم، لا يعقبها سوى بلدان تسيطر عليها الحروب كالعراق والصومال. وفي حينها أصدر مكتب رئيسة الفلبين جلوريا ماكاباجال ارويو رده واصفاً ما توصلت إليه لجنة حماية الصحفيين من نتائج “بالمبالغات”. وقد أظهرت المذبحة التي حدثت في تشرين الثاني/ نوفمبر فى مقاطعة ماجوينداناو على نحو مأساوي أن تقصير السلطات الفلبينية عن مواجهة ثقافة الإفلات من العقاب له عواقب وخيمة. فقد اعتقد أعضاء الجماعة السياسية المتهمون بتنفيذ عمليات القتل أن بمقدروهم الإفلات بفعلتهم، وكان لاعتقادهم ذاك ما يبرره.

ولكن بفضل مناصري الصحافة الفلبينية، أصبح هناك وعي – ونقمة – على نطاق واسع إزاء إخفاقات الحكومة. ففي غضون أيام من وقوع أعمال القتل، تجمع صحفيون وإعلاميون فلبينيون بقصد السفر إلى مكان المذبحة وتقديم المساعدة لأسر الضحايا وإجراء تحقيق مستقل والخروج بتقرير موثق، وقد انتشر هذا التقرير على نطاق واسع على شبكة الإنترنت. وفي غضون أسابيع، حضر وفد عالمي يمثل الاتحاد الدولي للصحفيين ولجنة حماية الصحفيين وجماعات أخرى من أجل دعم الجهود المحلية.

ينبغي أن يكون ثمن التقصير عن التصدي لظاهرة الإفلات من العقاب ظاهراً ليس فقط للبلدان الأخرى المدرجة على مؤشر الإفلات من العقاب الصادر من لجنة حماية الصحفيين – بلدان مثل روسيا والمكسيك وباكستان – بل أيضاً لشركائها الدوليين. وفي أيلول/ سبتمبر توجّه وفد من لجنة حماية الصحفيين إلى موسكو وبروكسل من أجل عرض الدراسة المعمقة التي أعدتها لجنة حماية الصحفيين حول جرائم قتل الصحفيين التي لم تحل في روسيا وعنونتها “نسيج الظلم”. وفي موسكو، وضع الوفد القضية أمام كبار المحققين ومسؤولين آخرين. أما في بروكسل، فقد اجتمع أعضاء الوفد مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي للتأكيد على أن هذه المشكلة هي مشكلتهم أيضاً. وقد دعا المحققون الروس لجنة حماية الصحفيين إلى العودة في عام 2010 لتقييم مدى التقدم المحرز. وحتماً ستكون لجنة حماية الصحفيين هناك.

إن المآسي التي شهدها عام 2009 جعلت التحدي الماثل أمامنا أكثر وضوحاً. فخلق ساحة إعلامية عالمية نشطة وآمنة يتطلب تفكيراً إستراتيجياً جديداً يهدف إلى جلب القتلة للمثول أمام القضاء، وتقليل عدد الصحفيين القابعين في السجن، ودعم المراسلين الصحفيين العاملين في المنفى أو في البيئات القمعية. وقد تم إحراز تقدم على صعيد هذه الجبهات كافة.

تشهد كوبا ظهور مجتمع نشط من المدونين المستقلين رغم امتلاكها أكثر قوانين الرقابة قمعاً في العالم. وفي زيمبابوي، عاود العديد من الصحفيين الذين أُجبروا على المغادرة إلى المنفى في أوائل العقد الحالي إلى الظهور مجدداً عبر موجات الأثير والمطبوعات وشبكة الإنترنت لنشر الأخبار بين الزيمبابويين.

أما في الصين، فقد انخفض عدد الصحفيين القابعين في السجن من 42 في عام 2004 إلى 24 في الوقت الراهن. كما غدا من الأرجح أن يُطرد الصحفيون التقليديون الذين يكشفون الفساد من العمل بدلاً من زجهم في السجن كما كانت الحال سابقاً. بيد أن التشكيك في النظام الشيوعي لا يزال خطاً أحمر، ومعظم الصحفيين السجناء في الصين اليوم هم من صحفيي الإنترنت المستقلين الذين يخوضون في ذلك تحديداً. ويشكل الدفاع عن صحفيي الرأي هؤلاء تحدياً كبيراً.

أصبح الصحفيون المستقلون والمراسلون المحليون وصحفيو الإنترنت يتمتعون بأهمية أكثر من أي وقت مضى في زمن أخذت فيه التكنولوجيا تغير أساليب الناس حول العالم في الحصول على المعلومات، وفي حين غدت مؤسسات الإعلام الدولية تخفض أعداد مكاتبها. يقول الناقد الصحفي أ. جيه. ليبلينغ ساخراً: “حرية الصحافة مكفولة فقط لمن يمتلك صحيفة”. وفي عالم اليوم، هذا ينطبق على الجميع تقريباً. ففي حين أن حقوق الصحفيين جميعهم محمية بموجب القانون الدولي، ثمة عدد قليل منهم ممن تسانده منظمات إعلامية كبيرة وتقف وراءه. وعوضاً عن ذلك، فإن سلامتهم وأمنهم يعتمدان على قدرة المنظمات المدافعة عن حرية الصحافة في تحريك الشارع وحشد الرأي العام.

تبرهن احتجاجات الحكومات القمعية بشأن “التدخل الأجنبي” و”الأجندات الخفية” على أن حملاتنا تترك الأثر المنشود. ورغم أن ثورة المعلومات العالمية قد تمخضت عن تحديات جديدة إلا إن “إعلان أسماء منتهكي الحقوق ووصمهم بالعار” لا يزال أسلوباً ناجعاً ومؤثراً.

جويل سايمون هو المدير التنفيذي للجنة حماية الصحفيين.