إن الحق في السعي للحصول على المعلومات وتلقيها وحرية التعبير هو حق مكرس في القانون الدولي والاتفاقيات الإقليمية لحقوق الإنسان والدساتير الوطنية في جميع أنحاء العالم. وبالطبع، لم يتم أبدا احترام هذا الحق على نحو كامل في الممارسة العملية، ولطالما ظل الصحفيون يواجهون السجن والاعتداءات العنيفة وحتى القتل انتقاماً منهم على عملهم
 

إلى ما بعد المادة 19

من أجل ميثاق دولي لحرية الصحافة

بقلم جويل سايمون

إن الحق في السعي للحصول على المعلومات وتلقيها وحرية التعبير هو حق مكرس في القانون الدولي والاتفاقيات الإقليمية لحقوق الإنسان والدساتير الوطنية في جميع أنحاء العالم. وبالطبع، لم يتم أبدا احترام هذا الحق على نحو كامل في الممارسة العملية، ولطالما ظل الصحفيون يواجهون السجن والاعتداءات العنيفة وحتى القتل انتقاماً منهم على عملهم.

ولكن اليوم، وفي الوقت الذي أخذت فيه التكنولوجيا الحديثة تطلق ثورة عالمية في الاتصالات، ثمة العديد من الحكومات تتحدى مفهوم حرية الصحافة ذاته، وتقيم الحجة بأن هذا الحق ليس حقاً عالمياً على الإطلاق وإنما يجب تكييفه مع الظروف الوطنية. وتقود الصين هذا التوجُّه على المستوى الدولي، وشرعت في زيادة عمليات الرقابة والمراقبة المحلية. وينبغي على الجماعات التي تناصر حرية التعبير أن تزيد الضغط على الحكومات التي أخذت تزعم بصفة متزايدة بأنه يتوجب تقييد التعبير لمواءمة الظروف الثقافية والتراثية ولمواجهة التهديدات للأمن الوطني.

لننظر إلى تركيا على سبيل المثال، والتي وصفتها لجنة حماية الصحفيين بأنها في مقدمة البلدان التي تسجن الصحفيين في العالم، فقد بلغ عدد الصحفيين السجناء فيها 49 صحفياً لغاية كانون الأول/ديسمبر 2012، وكانتقام مباشر منهم على عملهم. وتقول حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إنها لا تقمع حرية التعبير، بل تزعم بأنها تستجيب لتهديد كبير على الأمن القومي.

وفي بلد تاريخه حافل بالانقلابات وحركات التمرد، والتي تكون أحياناً مدعومة من عناصر إعلامية، لا يمكن رفض هذه المزاعم دون اكتراث. ولكن وجد تقرير خاص أصدرته لجنة حماية الصحفيين في تشرين الأول/أكتوبر 2012 أن معظم الصحفيين السجناء تعرضوا للملاحقة بموجب قوانين غامضة تساوي ما بين التغطية الصحفية للعمليات الإرهابية وبين تقديم المساعدة للإرهاب. وفي كثير من الحالات كانت الأدلة المستخدمة ضد الصحفيين هي المواد الصحفية نفسها التي نشروها، أو مكالمات هاتفية لمصادر المعلومات، أو مناقشات مع صحفيين زملاء.

يواجه المحقق الصحفي البارز نديم سينير خطر أن يصدر بحقه حكم بالسجن لمدة تصل إلى 20 عاماً على خلفية اتهامات بأن تغطيته الصحفية الناقدة أدت بطريقة ما إلى تشجيع مؤامرة مناهضة للحكومة. وقد أمضى هذا الصحفي أكثر من عام في السجن بانتظار محاكمته، ويقول إن الحكومة تسعى إلى إقناع الجمهور بأن “الأحكام الاعتيادية لسيادة القانون لا تنطبق في هذه الحالة”.

وتتجاوز القيود المفروضة على التعبير الناقد في تركيا أبعد كثيراً من التهديدات المزعومة للأمن القومي. فالسلطات تحظر التغطية الإعلامية التي تعتبرها مهينة للشعب التركي أو التي تؤثر على مجريات القضاء. وإذا ما تحقق لأردوغان ما يريده، فستصبح إهانته أمراً محظوراً أيضاً. فقد قال رئيس الوزراء في مقابلة مع الصحفية كريستيان أمانبور من محطة ‘سي أن أن’ جرت في أيلول/سبتمبر 2012 إنه في حين يتقبل النقد، إلا أنه لن يتسامح مع الإهانات، وعلى ما يبدو فإنه يحتفظ لنفسه بسلطة التفريق بين ما هو نقد مباح وما هو إهانة محظورة.

وفي أمريكا اللاتينية، يحتفظ الرئيس الإكوادوري، رافائيل كوريا، لنفسه بالحق أن يحدد شخصياً مدى النقد المقبول ويزعم بأن الجهود التي تبذلها الهيئة المعنية بحقوق الإنسان والتابعة لمنظمة الدول الأمريكية للالتزام بالمعايير القانونية الدولية تمثل تهديداً لسيادة بلاده. وفي إحدى الحالات الموثّقة، رفع الرئيس كوريا دعوى قضائية ضد الصحيفة اليومية البارزة ‘إليونيفيرسو’ نجم عنها إصدار أحكام بالسجن ضد كبار المحررين ودفع غرامة قدرها 40 مليون دولار أمريكي. وبعد أن ثبتت المحكمة العليا في البلاد هذا الحكم، أصدر الرئيس كوريا عفوا عن الصحفية وتعهد بأنه سوف “يسامح ولكنه لن ينسى”.

وقد تحدى المقرر الخاص المعني بحرية التعبير التابع لمنظمة الدول الأمريكية الإدانة الجنائية لصحفيي ‘إليونيفيرسو’ – والتي تستند إلى خطاب ناقد فحسب – ووصفها بأنها تمثل انتهاكا للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان. ولم يكتفِ الرئيس رفائيل كوريا بأن هاجم المقرر الخاص ولجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، ولكنه رفض أيضاً فكرة أن الإكوادور ملتزمة بالمعايير القانونية الدولية.

وقد حشد الرئيس كوريا جهوده مع جهود كتلة من قادة أمريكا اللاتينية الذين يشتركون معه في هذه الأفكار، بمن فيهم هوغو تشافيز من فنزويلا ودانييل أورتيغا من نيكاراغوا، وحصل على موافقة مبدأية من بلدان منظمة الدول الأمريكية على مبادرة من شأنها أن تقيّد إلى حد كبير سلطة لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان والمقرر الخاص. وستدخل قواعد هذه المبادرة حيز النفاذ فيما إذا وافقت عليها الجمعية العامة للمنظمة في عام 2013. وفي هذه الأثناء، قامت فنزويلا بخطوة غير مسبوقة إذا انسحبت من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، وهي خطوة رمزية إلى حد بعيد ولكنها مشحونة بشدة.

وقال كلوديو غروسمان، عميد كلية القانون في الجامعة الأمريكية والرئيس السابق للجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، “تشافيز ينظر إلى الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان على أنها عقبة أمام رؤيته للمجتمع الفنزويلي”. وقد أقر غروسمان بالتهديد الكبير الذي يشكله الرئيسان كوريا وتشافيز وغيرهما على المنظومة الإقليمية لحقوق الإنسان، والتي عملت على ضمان حرية التعبير في جميع أنحاء الأمريكيتين، ولكنه استنتج بالقول “لا أعتقد أنهما سينجحا في مسعاهما”.

ثمة تهديدات للمنظومة القانونية الدولية التي تحمي حرية التعبير تنبثق من أنحاء عديدة في العالم. فلقد أكد زعماء في العالم الإسلامي منذ أمد بعيد على حقهم بتقييد التعبير الذي يجرح المشاعر الدينية، ودعوا ضمن الأمم المتحدة إلى قرارات عديدة لشجب التشهير بالأديان – وهو جهد سيؤدي فيما إذا نجح إلى جعل التجديف الديني جريمة دولية. لقد وصل الجدال بشأن الحدود على حرية التعبير فيما يتصل بالدين إلى أعتاب الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر في أعقاب الفيديو المثير للخلاف “براءة المسلمين” الذي سخر من النبي محمد.

وقد تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام الأمم المتحدة وأقام الحجة بأن حرية التعبير ليست قيمة أمريكية أو غربية، بل هي مثل أعلى عالمي. وقال الرئيس أوباما، “في الوقت الذي يمكن به لأي شخص يملك هاتفاً محمولاً أن ينشر آراء مسيئة في جميع أنحاء المعمورة عبر نقرة على زر، فإن فكرة أننا قادرون على السيطرة على تدفق المعلومات هي فكرة بالية”. إلا أن الرئيس المصري محمد مرسي دافع عن وجهة النظر المقابلة وحاجج بأنه من غير المقبول فرض معايير حرية التعبير الأمريكية عبر الإنترنت على العالم أجمعه، وزعم بأن مصر غير ملزمة بالتغاضي عن تعبيرات تثير الكراهية وتعمّق الجهل ولا تراعي الآخرين. وقد أيد موقف مرسي العديد من الحكومات الأخرى، لا سيما الحكومات من العالم الإسلام.

السلطات الصينية أيضاً تعتبر الطبيعة الدولية للإنترنت على أنها تهديد – بيد أن تركيزها ينصب على الأمن والاستقرار القوميين – وتقول إنه ينبغي على الأمم المتحدة أن تتدخل في هذا المجال. وترى السلطات الصينية أن الإنترنت يجب أن تعمل كمنظومة طرق وطنية تمثل جزءاً من شبكة دولية ولكنها خاضعة للقوانين والأعراف المحددة لكل بلد. وقد استخدمت السلطات الصينية وسائل متنوعة لتحقيق هذه الرؤية في داخل حدود الصين، إذ أخذت بتصفية المحتوى الأجنبي (بما في ذلك تحقيقات صحفية ظهرت مؤخراً في صحف دولية حول الثروة الشخصية للقادة الصينيين) وعمدت في الوقت نفسه إلى فرض الرقابة على الناقدين المحليين وتهديدهم وملاحقتهم قضائياً.

ستكون مهمة السلطات الصينية أسهل كثيراً لو كان يوجد نظام مركزي لإدارة الإنترنت يخضع لمصالح ليس المستخدمين الأفراد وإنما الدول المستقلة، أي على عكس النظام السائد حالياً. وثمة العديد من الدول تدعم المقترح الصيني بأن تخضع الإنترنت لإدارة الأمم المتحدة، مثل إيران التي تحاول استخدام التكنولوجيا الصينية لإنتاج ما تدعوه شبكة محلية “حلال” أو مرخصة خالية من التعبيرات السياسية المناوئة والنقد الديني.

وتقول شارون هوم، المديرة التنفيذية لمجموعة الدعوة ‘حقوق الإنسان في الصين’ إن الصين لا ترفض المعايير الدولية لحرية التعبير بصفة مطلقة، ولكنها تزعم بأنه ينبغي تكييف تلك المعايير مع “الظروف الوطنية”، وإن القيود في حالة الصين هي أمر مبرر بسبب الشواغل المتصلة بالأمن القومي. وفي الميادين الدولية، تستغل الصين على نحو ماكر الشواغل الغربية بشأن التهديدات التي تثيرها الهجمات والجرائم الإلكترونية، وفي الوقت نفسه تحشد الدعم لنظام دولي للسيطرة على الإنترنت في بلدان العالم النامي من خلال وصف شبكة الإنترنت بأنها جزء حيوي من البنية التحتية الدولية التي تخضع لسيطرة “المصالح الأمريكية”.

وتقيم شارون هوم الحجة بأنه إذا أخفقت الديمقراطيات الغربية بمواجهة الصين، فستتعزز قدرة السلطات الصيينية على بناء تحالفات دولية تدعم السيطرة على الإنترنت ومراقبتها (أو تتغاضى عن ذلك على الأقل). وتقول إن الديمقراطيات “لا يجوز بأن تسمح لنفسها بأن تصبح رهينة لمخاوفها. فلا ينبغي أن نسمح للحوار بشأن الإنترنت أن يخضع لسيطرة لغو مؤيدي سلطات الدول”.

تنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم إقراره في عام 1948 على أن “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود”. كما أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بصفة عامة على هذه اللغة ، وهو اتفاقية متعددة الأطراف أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، ولكنه حدد القيود المسموح فرضها من أجل حماية حقوق الآخرين وسمعتهم، والأمن الوطني، والصحة العامة، طالما أن هذه القيود منصوص عليها بالقانون.

ويشير تيموثي غارتون آش، الأستاذ في جامعة أكسفورد والخبير في التاريخ الأوروبي المعاصر والذي يكتب كتاباً حول حرية التعبير في العالم، “إن هذه العبارة الموجزة ‘دونما اعتبار للحدود’ هي عبارة مدهشة حتى في عالم اتفاقيات حقوق الإنسان. فمعظم اتفاقيات حقوق الإنسان تتناول التزامات ومطالبات من الدول بخصوص الطريقة التي ينبغي عليها معاملة مواطنيها”.

هذا التأكيد على الطبيعة العابرة للحدود للحق في حرية التعبير تؤكده الاتفاقيات الإقليمية لحقوق الإنسان، مثل الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والتي تحتوي المادة 13 منها على حظر صريح على الرقابة المسبقة في القارتين الأمريكيتين. وعلى الرغم من أن طبيعة القيود المسموح بها ظلت مصدرا للنقاش والجدال، إلا أن الهيئات الإقليمية المعنية بحقوق الإنسان مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ولجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان أسست سجلاً قوياً بشأن القضايا المتصلة بحرية التعبير. ولكن مع الهجوم الذي تشنه العديد من الحكومات ضد المبادئ القانونية التي تستند إليها حرية الصحافة، فقد أصبح الخطر بأن تتراجع المعايير الأساسية خطراً حقيقياً ومتنامياً.

ويتمثل التحدي الرئيسي في أن الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات الحديثة جعلت المثل الأعلى الذي عبرت عنه المادة 19 أمراً واقعاً: وهو أن الحق في حرية التعبير هو حق عابر للحدود.

ويشير تيموثي غارتون آش إلى أن “حرية التعبير توسعت مع انتشار الديمقراطية في النصف الثاني من القرن العشرين. واليوم لدينا قوة عظمى ناشئة، وهي الصين، والتي تطبق معايير تلائم القرن التاسع عشر فيما يخص سلطة الدولة. وثمة العديد من الدول التي تعتبر هذه النظرة جذابة، وهي مهتمة جداً بالمثال الذي تطبقه الصين. فثمة العديد من البلدان التي كانت مُستعمرة سابقاً تقول الآن، ‘نعم، ينبغي أخذ الحدود الوطنية بعين الاعتبار’ “. وكان آش قد ساعد في إقامة الموقع الإلكتروني Freespeechdebate.com الذي يستضيف مناقشة دولية حول حرية التعبير في العصر الرقمي.

شبكة الإنترنت تثير الاضطراب بطريقتين. الأولى، أنها تجعل من الصعب التحكم بالأفكار والمعلومات والصور التي تدخل البلاد من الخارج. إن بعض المواد المتوفرة لمستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم – من الصور الإباحية إلى النصوص المناهضة للأديان إلى التقارير حول انتهاكات حقوق الإنسان والفساد – هي مواد صادمة أو حتى تؤدي إلى عدم الاستقرار في البلدان التي طالما ظلت تسيطر على تدفق المعلومات. وتتمثل الطريقة الثانية في أن التكنولوجيا تجعل من السهل تبادل الأخبار والمعلومات على الصعيد المحلي من قبل الحركات السياسية من أجل بناء جماعات معارضة. ويمثل الربيع العربي أوضح مثال على ذلك. وقد أثبتت شبكة الإنترنت أنها قوة سياسية مثيرة للاضطراب في بلدان عديدة من إيران إلى فيتنام. وتسعى الحكومات في العديد من البلدان إلى السيطرة على شبكة الإنترنت ذاتها بينما تعمل في الوقت نفسه على قمع الأفراد الناقدين الذين ينشرون على الإنترنت، بمن فيهم الصحفيون.

وقد أصدر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية التعبير، فرانك لارو، تقريراً في عام 2011 توصّل إلى أن اللغة المحددة الواردة في المادة 19 استشرفت تطورات تكنولوجيا المعلومات الجديدة، وبالتالي فإن مبادئ القانون الدولي ذاتها التي طالما انطبقت على وسائل الإعلام التقليدية تنطبق أيضاً على جميع مستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم.

وفي حين يسمح القانون الدولي بفرض قيود محددة استناداً إلى تهديدات يواجهها الأمن القومي، إلا أنه لا يوجد سند قانوني للقيود الواسعة والكاسحة التي تفرضها بلدان مثل تركيا باسم مكافحة الإرهاب. وفي عام 1985 طورت مجموعة من الباحثين القانونيين مبادئ جوهانسبرغ بشأن الأمن القومي وحرية التعبير، وأعلنوا: “لا يجوز فرض قيود على حرية التعبير أو المعلومات استناداً إلى شواغل تتعلق بالأمن القومي إلا إذا كان بوسع الحكومة إثبات أن القيود المعنية منصوص عليها بالقانون وضرورية في المجتمع الديمقراطي لحماية مصالح مشروعة للأمن القومي. ويقع على الحكومة عبء إثبات شرعية هذه القيود”.

القانون الدولي لا يسمح أيضاً بفرض قيود على التعبير عن الأفكار التي تصدم أو تسيء للمعتقدات الدينية، إلا أنه يمكن حظر “الكراهية القومية أو العرقية أو الدينية التي تمثل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف”. ولكن ظلت مسألة تحديد ما يمثل تعبيرات كراهية في السياق الدولي أمراً محفوفاً بالتحديات، وقد أساءت الحكومات استخدام هذا المفهوم كي تبرر فرض قيود على انتقادات مشروعة وتتماشى مع القانون. فعلى سبيل المثال، أقامت عدة حكومات أفريقية حجة بأن الحرية غير المقيدة للصحافة على النمط “الغربي” تؤدي إلى زرع الشقاق الإثني. وفي رواندا، حيث أدت محطات الإذاعة المحلية دوراً موثّقاً في إشعال عمليات الإبادة الجماعية، يتعرض الصحفيون الناقدون لملاحقات قضائية بصفة مستمرة بموجب قوانين تجرّم “إثارة الكراهية القبلية” و “الشقاق” وتم سجن بعض الصحفيين ولجأ صحفيون آخرون للفرار إلى المنافي.

وقد أقام الرئيس المصري محمد مرسي وزعماء آخرون من العالم الإسلامي الحجة ذاتها – بأن الطبيعة العالمية لشبكة الإنترنت تفرض المعايير الغربية لحرية التعبير على أمم لا تريد أن ترى معتقداتها الدينية الراسخة تتعرض للسخرية والإساءة. ثمة جوانب جديرة بالاعتبار في الحجة التي يقيمها الرئيس مرسي، ولكن العكس صحيح أيضاً: فالقيود على حرية التعبير التي تُفرص باسم الدين في مصر وباكستان وإيران تمثل شكلاً من الرقابة العالمية التي تحرم العالم من المعلومات ذات الصلة وفي الوقت الملائم، والتي كانت ستتوفر عبر شبكة الإنترنت لصانعي القرارات الدوليين ومواطني العالم لولا هذه القيود.

إن إجماع الآراء الأساسي لدعم حرية التعبير في القانون الدولي قوي بما يكفي لمقاومة القادة المستبدين الذين يسعون للحصول على غطاء قانوني وسياسي لسياساتهم التقييدية. وببساطة، لا يوجد سند في القانون الدولي للتمييز بين النقد والإهانة بحسب ما يقترح الرئيس التركي أردوغان؛ ولا سند لتقييد التعبير الذي “يعمّق الجهل” أو “يستخف بالآخرين” بحسب ما يقترح الرئيس مرسي؛ كما لا يوجد سند قانوني للقيود الواسعة على محتوى شبكة الإنترنت التي تسعى السلطات الصينية إلى فرضها. إن الدعاوى الجنائية بتهمة التشهير التي استخدمها الرئيس الإكوادوري كوريا لقمع ناقديه في وسائل الإعلام تنتهك المبادئ الأساسية المنصوص عليها في قانون البلدان الأمريكية. والهجمات الفظة التي شنها كوريا على لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان بسبب تمسكها بهذه الحقوق هي هجمات خطيرة وغير مبررة.

يتسم القانون الدولي والولاية القانونية الدولية بأهمية حاسمة لإعمال المثُل التي وردت في المادة 19، والنشاط السياسي بهذا الشأن مهم بالقدر ذاته. يجب على المدافعين عن حرية التعبير أن يتحدوا وراء بيان واضح ودقيق وسهل الفهم بشأن ما تعنيه ممارسة هذه المثُل في الممارسة العملية. وما نحن بحاجة إليه هو ميثاق دولي لحرية التعبير.

أما بشأن ما ينبغي أن يتضمنه هذا الميثاق بالضبط، فيجب أن يتحدد من قبل جماعات المجتمع المدني بالتشاور مع خبراء قانونيين. ولا شك أنه ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار وجهات نظر الحكومات بشأن قضايا مثل الأمن القومي، وينبغي تشجيع الحوار بين الجماعات والوطنية المعنية بحرية التعبير وبين المسؤولين الحكومية بالقدر المستطاع. ولكن لا ينبغي التهاون فيما يتعلق بالمثُل الواردة في المادة 19 – وهي مُثل توحد الناس في جميع أنحاء العالم والذين يناضلون كي يعبروا عن أنفسهم أو كي يصلوا إلى معلومات مستقلة.

وعلى الرغم من وجود العديد من البيانات والمبادئ والإعلانات بشأن حرية التعبير وحرية الإنترنت، إلا أن العديد منها تتسم بأنها تقنية أو قانونية أو إقليمية أو ضيقة في نطاقها. وما نحن بحاجة إليه هو وثيقة جديدة لا تعمل ببساطة على تكرير المبادئ المكرسة منذ أمد بعيد في القانون الدولي، وإنما ترجمة تلك المبادئ على شروط ملموسة ويمكن التحقق منها.

وعلى الأقل، ينبغي على أي ميثاق دولي لحرية التعبير أن يوضّح أن الرقابة المسبقة وسيطرة الحكومات على الإنترنت والقوانين المتعلقة بالتشهير الجنائي والقوانين الجنائية بشأن التجديف، وقضايا القذف التي يرفعها كبار المسؤولين جميعها أمور لا تتماشى مع الضمانات التي تؤسسها المادة 19.كما أن التهديدات والتصرفات العنيفة التي تقوم بها الحكومات لتقييد التعبير عن النقد أو الأفكار هي دائما غير مقبولة ويجب شجبها. بل ثمة التزام على الحكومات أن تحقق بالجرائم المرتكبة ضد حرية التعبير، بما في ذلك الاعتداءات على الصحفيين.

يجب المصادقة على هذا الميثاق بصفة رسمية من قبل الأوساط الدولية المعنية بحرية التعبير، ويجب الضغط على الحكومات كي تعلن عن التزامها بمبادئه. وسيبادر بعض القادة إلى تبنيه عن طيب خاطر؛ في حين سيُجبر آخرون على تبنيه؛ وسيقاومه قادة آخرون عديدون. وتكمن الفكرة في اجتذاب دعم كافٍ في نهاية المطاف بحيث يُنظر إلى الحكومات التي ترفض المصادقة على الميثاق على أنها متطرفة. وفي الوقت نفسه، يجب على الحكومات التي تلتزم بمبادئ الميثاق أن توافق أيضاً على الخضوع على تقييم دوري مستقل لتحديد مدى التزامها به.

إن الهجمات المتنامية التي يشنها القادة المتشددون على عالمية المُثل الورادة في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تقتصر على تهديد الصحفيين الناقدين، بل تهدد الناس في كل مكان ممن يستخدمون التكنولوجيا الجديدة للتعبير عن أفكارهم وكي يحصلوا على المعلومات. وإذا ما توصّل المجتمع المدني إلى توافق في الآراء وحوّله إلى معايير واضحة يمكن تحقيقها والتحقق منها، فلن تقتصر فائدة هذا الأمر على عمل وسائل الإعلام، بل سيساعد الناس في كل مكان من أجل تحقيق الإمكانات الكاملة لثورة المعلومات.

جويل سايمون هو المدير التنفيذي للجنة حماية الصحفيين، وقد قاد بعثة لجنة حماية الصحفيين إلى تركيا في عام 2011.


المزيد
به
وتتوفر أيضا في
 



لغات أخرى

شراء

Book Cover ادعم لجنة حماية الصحفيين: اشتري نسخة من تقرير الاعتداءات على الصحافة في عام 2012

عرض الشرائح: سنة في صور

Slideshow: Year in Photos