يتباكى الحكام المستبدون والمسؤولون في الأنظمة الحاكمة في جميع أنحاء العالم بشأن “مسؤولية الصحافة”. وفي معظم الحالات يكون الهدف من مواعظهم وأحاديثهم عن الحاجة إلى وضع مدونة سلوك أو توجيهات أخلاقية هو تقليم أجنحة الصحفيين المستقلين وترويض الصحافة. وهم يسعون من خلال إثارتهم للمعاني السامية للوطنية والشرف والسمعة واحترام السلطة إلى ردع التحقيقات ومنع الكشف عن الإساءات التي ترتكبها السلطة أو الكشف عن الثروات التي يتم الحصول عليها بطرق ملتوية.

 

الأنظمة المستبدة تلوح ‘بالأخلاقيات’ كتبرير للقمع

إعداد: جين-بوول مارثوز

يتباكى الحكام المستبدون والمسؤولون في الأنظمة الحاكمة في جميع أنحاء العالم بشأن “مسؤولية الصحافة”. وفي معظم الحالات يكون الهدف من مواعظهم وأحاديثهم عن الحاجة إلى وضع مدونة سلوك أو توجيهات أخلاقية هو تقليم أجنحة الصحفيين المستقلين وترويض الصحافة. وهم يسعون من خلال إثارتهم للمعاني السامية للوطنية والشرف والسمعة واحترام السلطة إلى ردع التحقيقات ومنع الكشف عن الإساءات التي ترتكبها السلطة أو الكشف عن الثروات التي يتم الحصول عليها بطرق ملتوية.

فضيحة أخبار العالم التى اخترقت فبها صحيفة تابلويد الاحد البريطانية البريد الصوتي للمشاهير والمواطنين العاديين، أدىت إلى انقسام حاد فى النقاش حول كيفية تنظيم وسائل الإعلام في المملكة المتحدة.  (رويترز / لوقا ماكجريجور)

يتم التلويح بالأخلاقيات أيضاً عندما تغطي الصحافة موضوعات حساسة، مثل الدين والقومية والشؤون الإثنية. وبذريعة احترام حقوق الأقليات ضد خطاب الكراهية، أو منع التحريض على العنف، وعادة ما تسعى الحكومات إلى فرض الرقابة على الموضوعات الصحفية المهمة للمصلحة العامة والتي ينبغي إطلاع الجمهور عليها.

ففي البلدان ذات الأنظمة الاستبدادية غالباً ما تكون الدعوات الموجهة للصحفيين بممارسة حس المسؤولية والاحترام، هي كناية عن فرض الرقابة. ففي مصر، وبعد الإطاحة بالحكومة التي قادتها حركة الإخوان المسلمين في يوليو/تموز 2013، قام الحكام الجدد المدعومون من الجيش، وعلى نحو فوري، بالإعلان عن نواياهم بوضع مدونة سلوك للصحفيين، وجعلت من إقرارها شرطاً لرفع الرقابة التي فرضتها.

وفي الإكوادور، ظل الرئيس رفائيل كوريا منغمساً في حملة لتقريع وسائل الإعلام منذ عدة سنوات، ووصف الصحفيين بأنهم “غير أخلاقيين”، و “يتحدثون بالترهات”، أو “كاذبون”. وبعد انتصاره الكبير في الانتخابات في فبراير/شباط 2013، حذّر بأن “أحد الأشياء التي يجب إصلاحها هي االصحافة، والتي تفتقر تماماً للأخلاق والقيم”، وذلك حسبما أورد مراسل لجنة حماية الصحفيين، جون أوتيس. وقد قام الرئيس رفائيل كوريا منذ ذلك الوقت “بإصلاح” الصحافة عبر قانون جديد للاتصالات فرض قيوداً شديدة على حرية الصحافة من خلال وضع قواعد حكومية للمحتوى الصحفي ومنح السلطات القدرة على فرض عقوبات اعتباطية ضد الصحافة.

وفي يونيو/حزيران 2013، حاولت حكومة سريلانكا فرض مدونة أخلاقية جديدة على الإعلام من أجل “خلق ثقافة إعلامية حميدة”، حسب زعم وزير الإعلام المعلومات، كيهيليا رامبوكويلا. وعلى الرغم من أن احتجاجات الجمعيات الصحفية الوطنية والدولية أجبرت الحكومة على التراجع، إلا أن بعض المراقبين يخشون من أن المدونة الجديدة ستطفو على السطح لاحقاً. وأفاد براد آدمز للجنة حماية الصحفيين، وهو مدير قسم آسيا في منظمة هيومان رايتس ووتش، “لقد كانت مدونة الأخلاقيات الإعلامية جزءاً من حملة مستمرة للسيطرة على الإعلام وتقييد المعارضة. ومن المرجّح أن يقود الغموض التي تتسم به هذه المدونة إلى رقابة ذاتية أكبر لتجنب انتقام الحكومة”. وتحظر مدونة السلوك “النقد الذي يؤثر على العلاقات الخارجية” والمحتوى “الذي يشجع التوجهات غير الوطنية”. كما تحظر “المواد المناهضة لكرامة الفروع التشريعية والقضائية والتنفيذية” للحكومة وتحذر من نشر المحتويات التي “تتعدى على الآداب العامة في البلد أو تنزع إلى تخفيض معايير الذوق العام والأخلاق العامة”.

وفي بوروندي، “فإن المناقشات بشأن صياغة قانون جديد للصحافة، والذي وُضعت نصوصه في يونيو/حزيران 2013، تشير باستمرار إلى الانتهاكات الأخلاقية المزعومة للصحافة” حسبما أفادت للجنة حماية الصحفيين ماري-سوليه فريه، وهي مؤلفة وباحثة في جامعة بروكسل. وأضافت، “لقد كرر أعضاء في الحزب الحاكم اتهامات مقززة بأن الصحفيين متحيزون وغير نزيهين وينهمكون في التشهير والأكاذيب والإهانات”.

وتلجأ الحكومات الاستبدادية لأساليب أخرى للمبالغة بشأن الانتهاكات الأخلاقية المزعومة عندما يكون ذلك ملائماً لمصلحتها وكي تشوه سمعة الصحفيين الذين يثيرون سخطها، حتى أنها تقلل من شأن الاعتداءات البدنية التي يتعرض لها المراسلون الصحفيون بسبب عملهم.

وإذا ما قُتل صحفي يحقق بشأن الاتجار بالمخدرات في المكسيك أو هندوراس، تستخدم الشرطة عبارة “Por algo sera” والتي تعني “لا بد أن هناك سبب” – في تلميح بأن مقتل الصحفي مبرر بسبب انخراطه مع المنظمات الإجرامية. ويُستخدم ذلك كتبرير لعدم إجراء تحقيقات جادة بشأن جريمة القتل، مما يغذي دورة الإفلات من العقاب.

وفي الواقع، غالباً ما تكون الحكومات الأكثر مطالبة “بالصحافة الأخلاقية” هي أول من يدفع وسائل الإعلام لكسر جميع القواعد والمعايير الصحفية. ففي مصر، حيث ظلت السلطات العسكرية-المدنية الجديدة تدعو إلى الالتزام بالأخلاقيات الصحفية، انهمكت وسائل الإعلام الحكومية بحملات شرسة ضد الأصوات الصحفية المعارضة.

وقال محمد خطّاب لبرنامج بثته محطة الإذاعة الأمريكية العامة في 12 يوليو/تموز 2013، وهو صحفي يعمل مع صحيفة ‘الحرية والعدالة’ التي تعتبر الصوت الرسمي لحركة الأخوان المسلمين، “الشيء المثير للدهشة هو أن صحفيين مصريين شاركوا أيضاً في مضايقة الزملاء المغضوب عليهم من السلطات الرسمية”. وقد طالت هذه الهجمات وسائل الإعلام الدولية أيضاً. وقال آندرو هوسكين مراسل محطة ‘بي بي سي’ للبرنامج نفسه الذي بثته محطة الإذاعة الأمريكية، “خلال مؤتمر صحفي عقده الجيش في هذا الأسبوع، تعرض مراسل لقناة ‘الجزيرة’ للطرد من قبل زملائه الذين هتفوا ‘برّة، برّة’ ثم صفقوا عندما خرج”.

وفي أذربيجان، قامت وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة، ومن دون حياء، بانتهاك خصوصية شخصيات معارضة بازرة وصحفيين مستقلين ونشر شائعات وأكاذيب ودون أن تتعرض لأية تبعات. وقالت ربيكا فنسينت للجنة حماية الصحفيين، وهي مديرة قسم الدعوة في نادي حقوق الإنسان الذي يتخذ من باكو مقراً له، “لقد رأيت أمثلة لا حصر لها لسلوكيات غير مهنية وغير أخلاقية متعمدة من قبل وسائل الإعلام التابعة للدولة والمؤيدة للحكومة”. وفي أغسطس/آب 2013، على سبيل المثال، نشرت صحيفة ‘سيس’ المرتبطة بالحزب الحاكم مقالاً هاجمت فيه خديجة إسماعيلوفا، وهي صحفية ناقدة حائزة على جوائز تعمل مع إذاعة ‘أوروبا الحرة/راديو الحرية’. وكان عنوان المقال “والدة خديجة الأرمنية يجب أن تموت”. وقالت الإذاعة في بيان صحفي: “أشارت المقالة على نحو زائف إلى عدد من أقارب إسماعيلوفا بأنهم أرمن. وبالنسبة لبعض الأذريين، تُعتبر الإشارة إلى الإثنية ‘الأرمنية’ بأنها تلميح للخيانة في بلد دخل في حرب مع أرمينيا بسبب نزاع على مناطق حدودية في عام 1988”.

واستخدمت وسائل الإعلام التابعة للدولة في الإكوادور قدراتها الكبيرة لتشويه سمعة صحفيين لم يلتزموا بالخط الرسمي. وبالمثل، وحسبما تقول الباحثة ماري-سوليه فريه، “في بوروندي، تمضي إذاعة ‘ريما أف إم’ المؤيدة للحكومة وقتها بمهاجمة المحطات الإذاعية القريبة من المجتمع المدني”.

وفي مثل هذه البلدان، تتواطأ الحكومات مع بعض وسائل الإعلام لانتهاك المعايير الأخلاقية الأساسية. وعلى سبيل المثال، عادة ما يُستخدم توزيع الإعلانات من قبل الحكومة كوسيلة قاتمة لضمان تغطية مواتية لها. ويؤدي هذا الأسلوب إلى تقويض صورة الصحافة الحرة والتشكيك باستقلالها المالي وقدرتها على تجنب تضارب المصالح.

وفي الأرجنتين، يتم تنفيذ هذا النوع من الضغط التعسفي على المستوى الوطني، ولكن تأثيره قوي بصفة خاصة في على وسائل الأعلام الصغيرة التي تعمل في الأقاليم، “والعديد منها” حسبما كتبت سارا رافسكي من لجنة حماية الصحفيين في عام 2012، “تعتمد بصفة شبه كاملة على الإعلانات الرسمية، وبالتالي تكون مكشوفة للضغط الحكومي في تغطيتها”.

ويتم تسليم “مغلفات بنية اللون” إلى صحفيين أفراد مما يؤدي الغرض ذاته ويؤدي إلى التأثير نفسه: فهم يقوضون بشدة استقلال الصحافة وحريتها. وفي بعض البلدان، حيث تنتشر الانتقائية في نشر الإعلانات ودفع مبالغ مالية بصفة مباشرة إلى صحفيين، يتم الدفاع عن هذه الممارسة حتى من قبل بعض الاعلاميين الذين يحاججون بأن الإعلانات الرسمية والأعطيات الشخصية ضرورية لحماية دخل الإعلام ووظائف الصحفيين.

كما أن مالكي وسائل الإعلام في بعض البلدان مقيدون بواسطة روابطهم التجارية مع الدولة، وبالتالي يكونون منكشفين لقدرة الدولة على الاسترضاء أو المعاقبة. وفي أسوأ هذه الحالات، يحدث الانكشاف لضغط الدولة عندما تكون الشركة الإعلامية مالكة لمشاريع تجارية يعتمد نجاحها على تنفيذ المشاريع الحكومية والحصول على التراخيص الرسمية.

وفي تركيا، أثناء الاحتجاجات في ميدان تقسيم وحديقة جيزي في مايو/أيار ويونيو/حزيران 2013، تصرفت المنظمات الإعلامية الكبرى المملوكة للقطاع الخاص كوكيلة للرقابة الحكومية بعدة طرق، بما في ذلك الامتناع عن تغطية الأحداث، ووصم المتظاهرين، وتبني الرواية الحكومية. ومما أثار سخرية الجمهور أن قناة ‘سي أن أن تركيا’ التلفزيونية بثت برنامجاً وثائقيا حول البطاريق بدلاً من بث تغطية حول التظاهرات، مما جعل البطريق رمزاً وطنياً للرقابة الذاتية.

وقال إيدان وايت، مؤسس مبادرة الصحافة الأخلاقية والأمين العام السابق للاتحاد الدولي للصحفيين، “لقد تصرفوا بشكل استباقي، فلم ينتظروا وصول التعميمات الحكومية لفرض الرقابة على الصحفيين”.

كان الصحفي التركي البارز يافوز بيدر يعمل أميناً للمظالم في الصحيفة اليومية ‘صباح’، وقد طُرد من عمله في يوليو/تموز 2013 بعد أن كتب مقالات انتقد فيها تعامل الحكومة مع حركات ميدان تقسيم/حديقة جيزي. وكتب بيدر، “إن صحفيي البلد مستعبدون لغرف أخبار يديرها مالكو وسائل الإعلام الجشعون والقساة، والذين تجعلهم مصالحهم الاقتصادية خاضعين” لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. كما كتب إن “النقد المباشر لسياسات الحكومة في الشأن الكردي أو السوري أو الفساد، أدى إلى فصل صحفيين من عملهم أو تعرضهم ‘للمقاطعة’. وقد أصبح نطاق الحوار الديمقراطي ونشر المعلومات ضيقاً بشدة”.

إن الرهانات عالية. ويدلنا تاريخ الاعتداءات ضد الصحافة أن الصحفيين الذين أصبحوا ضحايا مثل غوليرمو كانو مدير صحيفة ‘إل إسبكتادور’ في كولومبيا، وآنا بوليتكوفسكايا من صحيفة ‘نوفايا غازيت’ في روسيا، وهيرات دينك محرر صحيفة ‘آغوس’ في تركيا، لقوا حتفهم بسبب رؤية أخلاقية لعملهم قادتهم إلى مواجهة جماعات متنمرة ونخب فاسدة تتمتع بالسلطة. وقال محرر صحفي مكسيكي بارز للجنة حماية الصحفيين، وطلب عدم نشر اسمه لأسباب أمنية، “الصحفيون الملتزمون بعملهم يُقتلون لأنهم يرفضون الانهماك في الفساد والخضوع للعصابات الإجرامية”.

ومع ذلك، بوسع الصحافة غير الأخلاقية أن تثير اعتداءات ضد الصحافة من خلال التسبب بدعاوى قضائية بشأن التشهير تثير كثيراً من المتاعب، أو حتى تثيرالعنف حينما تقوم الجماعات السياسية المتطرفة أو المنظمات الإجرامية بالانتقام من الصحفيين الذين ينشرون اتهامات لا أساس لها أو يؤيدون طرفاً ضد الآخر. وقال صحفي من أمريكا اللاتينية لمؤلفي تقرير “قتل حامل الرسالة” الصادر في عام 2007 عن المعهد الدولي للسلامة الإخبارية، “اعتقد بقوة بأن أفضل إجراء أمني يمكن أن يتخذه الصحفي هو أن يكون صادقاً وموضوعياً وأخلاقياً ومسؤولاً، ومستقلاً فعلاً”.

تؤدي تصرفات الصحفيين غير الأخلاقيين أيضاً إلى إضعاف التضامن مما يساهم في حلقة العنف والإفلات من العقاب. وقال محرر صحفي مكسيكي للجنة حماية الصحفيين، “بما أن بعض الصحفيين القتلى هم مرتبطون بالمنظمات الإجرامية، فقد يصبح من الأسهل على العصابات وحتى على الشرطة أن تتجاهل تعبيرات الشجب التي تصدر عنا، ويضفي الضبابية على مسؤوليتهم عن هذه الاعتداءات ضد الصحافة. وتصبح مهنة الصحافة غير مرتاحة بشأن كيفية الاستجابة ومنقسمة بشأنها”.

وبالمثل، تؤدي الانتهاكات الأخلاقية إلى إضعاف الدعم الشعبي لوسائل الإعلام وتوفر الفرصة للحكومة، حتى في الديمقراطيات الراسخة، لإقرار قواعد قانونية أشد صرامة. ففي بلدان مثل فنزويلا وروسيا، عندما تعرضت وسائل الإعلام لضغط من الدولة لم يتحرك الجمهور دفاعاً عنها، وكأن جميع الصحفيين مرتبطون بزملائهم غير الأخلاقيين.

وتعد فضيحة صحيفة ‘نيوز أوف ذا وورلد’ [أخبار العالم]، حيث تم التسلل إلى الرسائل الصوتية للمشاهير وللمواطنين العاديين من قبل صحف الإثارة البريطانية، أحد الأمثلة الصارخة على التأثير السلبي للصحافة الخسيسة على حرية الصحافة في النظام الديمقراطي. لقد هزّت الفضيحة منذ انكشافها في عام 2010 المشهد الإعلامي البريطاني. وقادت إلى إجراء تحقيق عام وسخط شعبي مما جعل السياسيين يشعرون بأنهم ملتزمون باتخاذ إجراءات – أو على الأقل الظهور بهذا المظهر – ضد أقطاب الصحافة الذين ظل السياسيون يخشونهم ويتملقونهم حتى انكشفت الفضيحة. وتحت هذا الضغط، فقد خاطروا بتبني قواعد غير مدروسة ومنقوصة قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بحرية الصحافة تحت غطاء معاقبة الجرائم.

إن العلاقة بين جوانب القصور الحقيقية أو المزعومة لدى الصحفيين وبين مبالغة الدول في ردود أفعالها هي علاقة واضحة. وقالت ماري-سوليه فريه، الباحثة في جامعة بروكسل، للجنة حماية الصحفيين، “في عام 2010، قدم المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا مشروعاً (ولم يتمكن من تطبيقه) يهدف إلى استحداث محكمة استئناف للإعلام من شأنها أن تقيد سلطة مجلس الصحافة [المستقل تنظيمياً]، بذريعة أن نظام أمناء المظالم عالي التكاليف وغير فعال في إصلاح جوانب النقص لدى الصحفيين”.

ليست جنوب أفريقيا البلد الوحيد الذي أقر فيه الصحفيون مدونة سلوك أو مجلساً صحفياً لتفادي الأنظمة الحكومية. فقد تأسست لجنة الشكاوى الصحفية في بريطانيا في عام 1991 من قبل لجنة من المحررين الصحفيين لتجنب إقامة مجلس قانوني، حسبما أفادت منظمة ‘المادة 19’ التي تدافع عن حرية التعبير ووتخذ من بريطانيا مقراً لها. وبالمثل، تم تأسيس مجلس الأخلاقيات الصحفية في بلجيكا في عام 2009 في أعقاب ضغوط مارستها الأحزاب السياسية لوضع أنظمة بعد اتهام بعض وسائل الإعلام البلجيكية باختراق الخطوط الحمراء في تغطيتها لسلسلة من حالات اختطاف الإطفال والإساءات الجنسية ضدهم.

وأفاد الباحث الأكاديمي والمؤلف بينوي غريفيه للجنة حماية الصحفيين إن التوتر بين حرية الصحافة والأخلاقيات يعني “تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات”. ويعتمد هذا الأمر إلى حد كبير على المذهب الصحفي الذي يلتزم به المرء. فمدرسة المصلحة العامة في الصحافة جعلت الارتباط بالأخلاقيات عنصراً أساسياً في ممارسة حرية الصحافة. وجميع وسائل الإعلام الرفيعة المستوى تعتبر أن الالتزام بمعايير عالية هو ميزة لحرية الصحافة وليس عقبة أمامها. وكتب الصحفي كارل بيرنستين في مجلة ‘نيوزويك’ في عام 2011 مقالاً بشأن فضيحة اختراق الرسائل الصوتية التي قامت بها صحيفة ‘نيوز أوف ذا وورلد’، “المجتمع الديمقراطي يحتاج إلى صحافة حرة ومستقلة ومسؤولة فعلاً، كي تحقق عميقاً، وبعد ذلك أن تحقق فيما هو أعمق”. واشتهر كارل بيرنستين بسبب دوره في الكشف عن فضيحة ووتر غيت في القرن الماضي.

ويذهب بعض المؤلفين إلى ما هو أبعد من ذلك. ويحاجج ستيفن أ. وارد، مدير مركز الأخلاقيات الصحفية في جامعة وسكانسون، في الكتاب الذي نشره في عام 2011 بعنوان ‘الأخلاقيات ووسائل الإعلام’ أن دور الصحافة الحرة “يذهب إلى ما هو أبعد من مجرد ممارسة الحرية في النشر بشأن الشواغل الأخلاقية في كيفية تيسير الخطاب العام في مجتمع تعددي”. وقال إيدان وايت من مبادرة الصحافة الأخلاقية للجنة حماية الصحفيين، “ثمة هدف عام للصحافة بأن توفر معلومات دقيقة وموثوقة للمجتمعات التي تخدمها، وذلك بأقصى حد من النزاهة والاستقلال”.

بيد أن هذا التوجه الصحفي المدني ما هو إلا واحداً من أشكال شرعية عديدة تعكس معايير ومهمات مختلفة، مثل الصحافة التي توجهها المصالح التجارية أو المنقادة بمبادئ المذهب “التحرري”. كما أن الصحافة السيئة هي صحافة في نهاية المطاف، سواءً أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا. إن الأساليب غير الأخلاقية (ويجب عدم الخلط بينها وبين السلوك الإجرامي مثل اختراق التسجيلات الهاتفية الصوتية) هي جزء لا يمكن تجنبه في المشهد الصحفي المشاكس والنابض بالحياة. ويخشى عديدون من أن المساعي للقضاء التام على الأساليب غير الأخلاقية عبر فرض الأنظمة والعقوبات قد يقود إلى مخاطر لا مبرر لها لجميع الصحفيين في وسائل الإعلام.

نشر الكاتب ماريو فارغاس لوسا، الفائز بجائزة نوبل للأدب، كتابه ‘حضارة الترفيه’ في عام 2012 وأقر فيه بأن “الصحافة المدفوعة بالبحث عن الفضائح هي الطفل اللقيط لثقافة الحرية. ولا يمكن قمعها من دون توجيه ضربة قاتلة لحرية التعبير”. وتتفق مع ذلك إحدى الهيئات الأشد مناصرة للصحافة المسؤولة اجتماعياً، وهي لجنة هوتشينز لحرية الصحافة. ففي تقريرها البارز “صحافة حرة ومسؤولة” الصادر في عام 1947، قالت اللجنة: “عادة ما تكون المساعي الرامية إلى تصحيح الإساءات الناجمة عن الحرية، بما فيها حرية الصحافة، من خلال اللجوء إلى فرض عقوبات وضوابط قانونية هي الاستجابة العفوية الأولى من أجل الإصلاح. ولكن يجب موازنة المخاطر الناجمة عن هذا العلاج في مقابل المخاطر الناجمة عن المرض نفسه؛ فكل تعريف للإساءة يستدعي إساءة للتعريف. وبالتالي ستظل العديد من التعبيرات العامة الخبيثة والكاذبة والمرتشية تجد ملجأ لها تحت ‘حرية التعبير’ التي تهدف إلى تحقيق غايات مختلفة تماماً. وثمة ضرورات عملية لعدم استخدام الإجراءات القانونية لتقييد الإساءات الصحفية”.

لقد غدا التنظيم الذاتي شعارا تردده العديد من جمعيات الصحفيين. وهي تنظر إليه على أنه وسيلة رئيسية لتحقيق حرية التعبير وفي الوقت نفسه تفادي تأثير الدولة. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن العديد من البلدان الديمقراطية، لا سيما في أوروبا الغربية، أسست مجالس صحفية وأقرت مدونات سلوك لا يُنظر إليها على أنها تبث الخوف في الصحافة، إلا أن الشكوك تظل ماثلة بأن هذه الأنظمة لمحاسبة وسائل الإعلام قد تؤدي إلى تقليص الجرأة التي تسمح بها حرية الصحافة. وبالنسبة للمتشككين، فإن الدعوات للتحلي بالمسؤولية وتقييد الضرر (والتي يُزعم بأنها لمصلحة البلد والسلم الاجتماعي)، تتضمن خطراً بأن تتم ترجمتها بطريقة يمكن أن تردع الصحفيين والمحررين عن العمل في موضوعات حساسة تتصل بالأمن الوطني، أو العلاقات العرقية، أو التوترات الدينية.

كتب الصحفي توم ويكر، المحرر السابق في صحيفة ‘نيويورك تايمز’، في كتابه ‘على السجل: دليل من الداخل للعمل الصحفي’، “لنفترض أنه كان يوجد في عام 1971 مدونة سلوك، سواءً أكانت رسمية أم غير رسمية، وأقنعت أرثور سولسبيرغير [ناشر الصحيفة] بعدم نشر ‘أوراق البنتاغون’ السرية. فمن المشكوك فيه بأن أي مدونة سلوك كانت ستدفعه لنشر الأسرار المفترضة للحكومة. ليس ثمة بديل عن نزاهة الصحفي وحسه بالشرف ورغبته أن يتصرف بمسؤولية. إن وضع مدونة سلوك محددة ما هو سوى بديل سيء لأي من هذه الصفات الحميدة. فمدونات السلوك تدفع نحو الحذر، وتحد من الخيارات، وتستدعي المواقف العامة المشتركة. وهي عادة لا تدفع إلى الشجاعة والمخاطرة وتحدي الوضع الراهن”.

ويرى البعض أن الصحافة هي مهنة المغامرين. كتب الصحفي آنتوني لويس في عام 2007 كتابه ‘حرية الأفكار التي نكرهها: سيرة التعديل الأول للدستور الأمريكي’، واقتبس فيه ما قاله الصحفي بيرنارد ليفين من صحيفة ‘لندن تايمز’: “ليس ثمة أي واجب على الصحافة أن تكون مسؤولة أبداً، وسيكون يوماً سيئاً للحرية عندما تتحلى الصحافة بالمسؤولية. نحن خارجيون وخارجون عن القانون ويجب أن نظل كذلك، إذ أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي ستمكننا من المحافظة على العقيدة التي نحيا بها، وهي السعي إلى المعارف التي يرغب آخرون بإخفائها، والتعليق على مسائل يود آخرون ألا نعلق عليها”.

ومع ذلك، وحتى لو كانت شرطة الفضيلة ربما أكثر خطراً على المجتمع الحر من المراسلين الصحفيين المنفلتين، فلا يمكن لمناصري حرية الصحافة أن يغسلوا أيديهم من المسألة ويمضوا قدماً. ففي العديد من الحالات، كما رأينا في الأمثلة الورادة اعلاه، يؤدي انتشار ثقافة الإخفاقات الأخلاقية إلى إضعاف حقيقي للصحافة ويهدد استقلال وسائل الإعلام. وكتب المحرر التنفيذي السابق لصحيفة ‘نيويورك تايمز’ في أعقاب فضيحة صحيفة ‘نيوز أوف ذا ورلد’، “يحب الحكام المستبدون أن يروا الصحافة الحرة تتصرف على نحو سيء. ويحبون أكثر من ذلك أن يروا الحكومات الحرة تتصرف على نحو سيء”.

لا توجد وسيلة للتملص من هذا النقاش. وقال روزنتال ألفيس، مدير مركز نايت للصحافة في الأمريكيتين التابع لجامعة تكساس، وذلك في مقابلة مع بيل ريستو نشرها مركز المساعدة الإعلامية الدولية في عام 2010، “لقد انهمكنا بشدة في الدفاع عن الصحفيين، إلى درجة جلعتنا نتجنب أحياناً الكشف عن الجانب المظلم من مهنتنا”.

يجب على الجماعات المعنية بحرية الصحافة أن تعمل بلا كلل لاستعادة لواء الأخلاقيات من أيدي الذين يرغبون بارتهانها، ومن بينهم الحكام المستبدون والمتظاهرون بالوازع الأخلاقي. وقال إيدان وايت، “يجب الالتزام بالأخلاقيات من أجل تجنب التوجهات الخطرة لدى سلطات الدولة أن تطلب المزيد من السيطرة”.

وقال غريفيه، المؤلف البلجيكي، للجنة حماية الصحفيين، “الأخلاقيات لا تستدعي فقط واجبات وممنوعات. فهي تتضمن أيضاً حقوقاً كي يتمكن الصحفيون من النهوض بمسؤوليات محددة نحو الجمهور”. وفي الحقيقة، عادة ما تكون حرية الصحافة شرطاً مسبقاً للممارسة الصحافة الأخلاقية. وقال بيتر هوروكس، مدير الأخبار الدولية في محطة ‘بي بي سي’ أثناء مؤتمر عقد في أفريقيا في أغسطس/آب 2013، “ثمة سمة أساسية في القدرة على التغطية الصحفية على نحو أخلاقي، وهي: الاستقلال الصحفي”. إن الكفاح من أجل تحقيق معايير أخلاقية أعلى باسم حرية الصحافة هو طريقة جيدة لإزعاج أمثال روبرت موغابي ورفائيل كوريا وعبد الفتاح السيسي في هذا العالم وحرمانهم من ذريعة سهلة لتشويه سمعة الصحافة الناقدة وإسكاتها.

جين-بوول مارثوز هو مستشار متقدم للجنة حماية الصحفيين، وهو صحفي وكاتب بلجيكي. ويعمل أيضاً كاتبا متخصصا في الشؤون الخارجية في صحيفة ‘لا سور’ وبروفيسور في الصحافة في جامعة دي لوفين الكاثوليكية.


المزيد
به
وتتوفر أيضا في
 



لغات أخرى

 
Book Cover

شراء

ادعم لجنة حماية الصحفيين: اشتري نسخة من تقرير الاعتداءات على الصحافة: طبعة 2014



الاعتداءات على الصحافة: قائمة المحتويات