في سوريا، مواجهة الخطر المحدق من كل جانب

جلست دزينة المهربين القرفصاء بالقرب من بغالها. كان يتوجب علينا أن نغادر قبل ساعات. وأخذ القلق ينتاب أربعتنا من فريق محطة ‘بي بي سي’ من أنه إن لم نذهب حالاً فإن الفجر سيطلع قبل أن نصل إلى لبنان، وقد تكتشف دورية سورية أمرنا على الجانب الأجرد من هذا التل. كنا على حافة جبال تمتد على طول الحدود السورية مع لبنان وتنحدر مبتعدة نحو وادي البقاع ليس ببعيد جداً عن المعبر الحدودي الرسمي على طريق دمشق بيروت العام. قيل لنا إن قتالاً قد دار بالمدافع الرشاشة في القرية المجاورة ضمن معركة للسيطرة على ممرات التهريب (وعلى الأرباح الكبيرة من بيع الأسلحة للثوار)، قُتل فيها ثلاثة رجال. وكان صاحب البغال ينتمي إلى الفريق المنتصر، لكنه سيتأخر علينا.
 

في سوريا

مواجهة الخطر المحدق من كل جانب

بقلم بوول وود

جلست دزينة المهربين القرفصاء بالقرب من بغالها. كان يتوجب علينا أن نغادر قبل ساعات. وأخذ القلق ينتاب أربعتنا من فريق محطة ‘بي بي سي’ من أنه إن لم نذهب حالاً فإن الفجر سيطلع قبل أن نصل إلى لبنان، وقد تكتشف دورية سورية أمرنا على الجانب الأجرد من هذا التل. كنا على حافة جبال تمتد على طول الحدود السورية مع لبنان وتنحدر مبتعدة نحو وادي البقاع ليس ببعيد جداً عن المعبر الحدودي الرسمي على طريق دمشق بيروت العام. قيل لنا إن قتالاً قد دار بالمدافع الرشاشة في القرية المجاورة ضمن معركة للسيطرة على ممرات التهريب (وعلى الأرباح الكبيرة من بيع الأسلحة للثوار)، قُتل فيها ثلاثة رجال. وكان صاحب البغال ينتمي إلى الفريق المنتصر، لكنه سيتأخر علينا.

وعندما وصل الرجل، انطلقنا في المسير صاعدين تله شديدة الانحدار وكانت الأرض الصخرية تلمع بيضاء تحت ضياء البدر. كانت بعض البغال محملة بقنابل يدوية صاروخية الدفع ومدفع رشاش ثقيل لأحدى القرى على الطريق. أما البغال الأخرى فكنا نركب عليها نحن. وقال أحد الذين كانوا معنا في المجموعة إن المهربين “حثالة الأرض”. كنا في شهر رمضان وهم غير صائمين، يتلفظون بشتائم بذيئة. ولما افترقنا، كل في طريقه، بعد 12 ساعة، رد أحدهم بعدوانية شديدة لأننا تفقدنا سلال البغال للتأكد من أننا لم نترك شيئاً، فصرخ مزمجراً من فوق حصان أسود كان يمتطيه “تراجعوا وإلا أطلقت النار” وشاتماً “أ…. وأ…. أختك”. اكتشفنا فيما بعد أنه سرق منّا سترة واقية من الرصال.

استعنا بهذه العصابة الإجرامية لأنه لم يكن بوسع المقاتلين الثوار إعادتنا من الطريق الذي جئنا منه، عبر بلدة الزبداني. كان القصف شديداً، وكنا نسمعه رغم المسافة بعد أن ارتفعت الشمس، وكان صوت نيران الدبابات وقطعات المدفعية التي رأيناها تحيط بالبلدة قبل أسبوعين يقصف كالرعد من بعيد. ولم يكن ذاك العبور إلى داخل سوريا سهلاً أيضاً. كانت التل شديد الانحدار بالنسبة للبغال لذا فقد سرنا على أقدامنا ثلاث ليال وكان نحس بالألم في أرجلنا والحرقة في صدرونا عندما توقفنا لنأخذ قسطاً من الراحة قبل أن نلتف حول نقاط الجيش الحدودية بأسرع ما يمكن في جنح الظلام.

قمنا بهذه الرحلة في شهر آب/أغسطس، وهي واحدة من بين ست رحلات سرية قمنا بها عبر الحدود لصالح محطة ‘بي بي سي’ خلال السنة الماضية. وقد تألف الطاقم من المصور فرِد سكوت والطبيب كيفين سويني ومترجمنا غسان (الذي لم يكن يستخدم اسمه الحقيقي) وأنا. وكنا نريد بذلك التمكن من تغطية أخبار الثورة من الداخل. ولكننا اضطررنا في أغلب الأحيان إلى التسلل إلى سوريا لأن النظام لم يكن يعطي تأشيرات دخول. وعلى الرغم من الوعد الذي بذلته الحكومة للأمم المتحدة بالسماح للمراسلين الأجانب بدخول البلاد إلا أنه كان من المستحيل الحصول على تأشيرات. لقد كانت مشقة السير في طريق وعرة بمعية مهربين يعيشون حياة وضيعة ثمناً بخساً لتجنب قوات الأمن السورية. وقد حذرنا ناشط بينما كنا نستعد للانطلاق في رحلتنا الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 قائلاً “سبع سنوات [سجن] لعبور الحدود بطريقة غير مشروعة. و10 سنوات أخرى لحيازة هاتف يعمل بالقمر الصناعي” ليتساءل من ثم: “هل تريدون حقاً القيام بهذا؟”.

كانت قبضة النظام لا تزال قوية في كل مكان عندما قمنا بتلك الرحلات الأولى في عام 2011. وكنا نمضي أياماً أو حتى أسابيع مختبئين في بيوت آمنة. وقد خاطر الناشطون ومقاتلو الجيش الحر بحياتهم للاعتناء بنا. كان وقوعك في يد النظام يعني خطراً حقيقيا. وكانت هناك دائماً نقاط تفتيش حكومية موجودة على مقربة منا. وقد حذرونا من أن المخبرين منتشرين في كل مكان. وحدثني ناشط عن مراسل لبناني يعمل لوكالة أنباء دولية تم الإمساك به وتعذيبه مدة شهر بالصعقات الكهربائية. وقال أيضاً إن صحفية غربية اعتقلت وضربت ضرباً مبرحاً وكان محتجِزوها يبولون عليها بينما كانت ملقاة على أرض الزنزانة. ومع أن أي شخص يغطي الأنباء من سوريا سيقول لك إن الناشطين يبالغون أحياناً، إلا أن مثل تلك القصص بدت جديرة بالتصديق على نحو يثير الذعر. فهذه القصص كانت تتوافق مع قصص كنا قد سمعناها عن آخرين وقعوا في المتاعب في سوريا. كانت الانتفاضة لا تزال حديثة عهد وبدا وكأن السلطات كانت تحاول الكشف عن شبكات الناشطين عن طريق اعتقال الصحفيين. فالمراسلين الذين اعتقلوا بسبب إجرائهم لقاءات مع معارضين للنظام كانوا موجودين في سوريا بصورة قانونية. وكنا نفكر أنه سيتم سجننا كجواسيس، على أقل تقدير، إذا تم الإمساك بنا. أما المترجم الذي كان معنا فكان يتوقع أن يُقتل.

ألقى الإعلام الرسمي السوري باللائمة على “مندسين أجانب” و “عملاء إسرائيل” في المشاكل التي تتعرض لها سوريا. وفي حمص، جاءني مضيفي، في شباط/ فبراير الماضي، ليقول لي إنه رآني على [تلفزيون] الدنيا، وهي قناة خاصة معروفة ببثها دعاية موالية للنظام أكثر تسميماً من تلك التي يبثها التلفزيون الرسمي. وقال لي مضيفي إن الدنيا عرضت أجزاء مصورة لي بينما اتهمني المعلق باستخدام كلمات وإيماءات معينة لإرسال رسائل مشفرة لوكالة الاستخبارات الإسرائيلية، الموساد. لقد وجدت ذلك أسخف من أن يُصدق، حتى بالنسبة للدنيا. فلماذا لا أتصل بالموساد بكل بساطة؟ لكن سوريين آخرين قالوا لي لاحقاً أنهم شاهدوا ذلك العرض أيضاً.

لاحقاً، وبعد أن أصبح ما يجري في سوريا أقرب إلى الحرب الأهلية منه إلى الانتفاضة، أصبح هناك خط أمامي يمكن تحديده وأراضي يسيطر عليها الثوار. ومع ذلك، تلقينا نفس التحذير من الناشطين كما حصل معنا في البداية. وقالوا لنا إن الخروج بكاميرا أشد خطورة من الخروج بكلاشنكوف. فقد أطلقت النار على ميكا ياماموتو، وهي مراسلة يابانية متمرسة، فأرديت قتيلة في حلب في شهرا آب/أغسطس. وقال لي قائد وحدة الجيش السوري الحر التي كانت ياماموتو تتنقل معها إنه لا يساوره شك بأنها قُتلت عمداً. وقال الجيش الحر إن قناصاً تابعاً لقوات الحكومة اعترف أنه كان ينفذ أوامر باستهداف المراسلين الأجانب. ومن الصعب معرفة ما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا، لكن الصحفيين السوريين من مواطني البلد يعتقدون أن النظام يعمل على النيل منهم- وكذلك الحال بالنسبة للصحفيين الأجانب.

لكن أبرز خسائر الإعلام حضوراً كانت ماري كولفن، فهي واحدة من أفضل مراسلي جيلها وأشجعهم. ذهبت كولفن، الأمريكية التي تعمل لصحيفة ‘صنداي تايمز’ البريطانية، إلى حي بابا عمرو في حمص حيث تعرضت للقصف في شباط/ فبراير فقتلت هناك إلى جانب المصور الفوتوغرافي الفرنسي ريمي أوشليك جراء سقوط صواريخ على المركز الإعلامي المُرتجل في بابا عمرو. وكنا قد أقمنا هناك في الأسبوع الذي سبق ذلك فقط. وكان ذلك المركز في الواقع عبارة عن شقة لأحد الناشطين وفيها مولد وماء ساخن وإنترنت. وكان بيننا في فريق محطة ‘بي بي سي’ من ذهب إلى أكثر من عشرين حرباً إلا أن القصف هناك كان أسوأ ما رأينا. كانت دبابات الحكومة على أطراف بابا عمرو. وبعد أربعة أيام فقط قررنا أن نغادر المكان.

وجاءت ماري لرؤيتي قبل أن تذهب إلى هناك. وكانت تعتقد أن النظام قد يقوم بأي شيء لمنع القصص والصور من الخروج من سوريا فتجعل من التدخل الأجنبي أكثر احتمالاً. وعلى الرغم من أن الصحفيين السوريين أرسلوا صوراً للقصف غير جديرة بالاعتماد يوماً تلو آخر، إلا أن حضور المراسلين الأجانب ركز الاهتمام فعلاً على بابا عمرو. كانت ماري تظهر في كل مكان من ‘بي بي سي’ و ‘سي أن أن’ و ‘سكاي’ وهي تروي حكاية تدمي القلوب عن رضيع أصيب بشظية قذيفة يحتضر في عيادة ميدانية رديئة التجهيز. وذكرت لمحطة ‘بي بي سي’ أن “الطبيب قال إنه لا يستطيع فعل أي شيء” له “ظل بطنه الضئيل ينتفخ حتى مات”. وبعد أقل من 24 ساعة من ذلك، قُتلت كولفن. إذا كان النظام يحاول إسكات تغطية أخبار بابا عمرو قبل هجومه البري، فقد فشل. وعبّر محرر في لندن عن الحقيقة عندما قال عن مقتل ماري: “لقد أدى [مقتلها] إلى انتشار القصة كالنار في الهشيم”.

هل هاجم النظام المركز الإعلامي متعمداً؟ بعد سقوط بابا عمرو، زرت مصور ماري، بول كونروي، الذي كان يتماثل للشفاء في مستشفى بلندن من فتحة بحجم قبضة اليد في الفخذ. كان كونروي جندياً في سلاح المدفعية الملكي البريطاني قبل أن يصبح صحفياً، وهو يظن أن صواريخ الكاتيوشا تلك كانت مصوبة بدقة عليهم. وقال “كان هناك [صوت تصادمين] يحدثان ويبدوا أنهما لتثبيت [إحداثيات] موقعنا. وتابع قائلاً: “لقد عملوا على تحديد الموقع وتثبيته ومن ثم سقطت أربعة صواريخ أخرى. كجندي في المدفعية، أعتقد أن ذلك كان عملاً متقناً لفريق حسن التدريب. لم يتم ضرب شيء من باب القصف العشوائي”. وروى لي كيف أنه استخدام كابل إثرنت كرباط مؤقت لوقف النزيف في ساقه وخرج متخبطاً عبر دخان أسود وتعثر بجسد نصف مطمور في الأنقاض. كانت تلك جثة ماري.

مرت خمسة أيام من الشك القاتل فيما إذا كان سيتمكن بول كونروي من المغادرة إلى جانب صحفيين أجانب آخرين علقوا في هذا الهجوم. وقد اتُهم أحد قادة لواء الفاروق -وهي الجماعة الرئيسية للجيش الحر المرابطة في حمص- بأنه يعمل على احتجاز الصحفيين هناك كي لا يتجاهل العالم مصير بابا عمرو. لكن القائد أبو جاسم نفى ذلك عندما التقيت به لاحقاً وقال إن رجاله قُتلوا وهم يحاولون إخراج الصحفيين من حمص. ومع ذلك، كانت هناك حالة من عدم الثقة وتبادل الاتهامات وسط سقوط بابا عمرو إلى حد أن جماعة أخرى من مقاتلي الجيش الحر كنا نمكث معها على مقربة من بابا عمرو أصرت على مرافقتنا لئلا يتم اختطافنا من قبل لواء الفاروق.

ولم يكن بول كونروي يصدق وعود النظام بتأمين عبور آمن لذا فقد قرر، برغم جروحه الخطيرة، المغادرة عبر النفق الذي كان الرابط الواهي الوحيد الذي يصل بابا عمرو بالعالم الخارجي. وقد أُخذ كونروي عبر النفق من قبل مقاتل من الجيش الحر حيث وجدا رجلاً يحمل ولداُ ابن عشر سنين تمزق اللحم عن ساقيه بفعل انفجار. وعند نقطة متهدمة من النفق بفعل قذيفة لم يكن هناك سوى حيز صغير لا يمكن المرور منه زحفاً في أعلى كومة من الأنقاض. وساعد بول الصبي وهو يجر جسده عبر تلك الفتحة وكان عظمه المسلوخ عنه اللحم يحتك بسطح الأسمنت المتثلم. خرج بول ولكن أولئك الذين كانوا بعده اضطروا للرجوع عندما هوجم النفق، وكان من بين الراجعين المراسل الأسباني خابير إسبينوزا والمصور الفرنسي ويليام دانيلز والكاتبة الفرنسية إيديث بوفييه التي كسر عظم فخذها وأُلصقت بواسطة شريط لاصق بالنقالة. لكن تمكن جميع الصحفيين الأجانب من الفرار في نهاية المطاف من بابا عمرو. وبقي المراسلون المحليون فقط الذين مكثوا هناك طيلة 25 يوماً من القصف.

وكان من بينهم شخص يدعى “جدّي” (على الرغم من أنه كان في الرابعة الثلاثين فقط من العمر). كان جدي يعمل بائعاً للخضروات قبل أن يحمل الكاميرا في الثورة، وهو جرئ غالباً إلى حد الطيش وبقي هناك عندما انسحب الجيش الحر – لتجنيب حي بابا عمرو المزيد من القصف، كما زعم الثوار. وكان رأي معظم المراسلين/النشطاء في بابا عمرو الذين تحدثت إليهم أن المقاتلين ارتكبوا خطاً، وقال لي أحدهم عبر الهاتف إن “الجيش الحر يجلسون في القصير يحتسون الشاي منهمكين في القيل والقال بينما يتم تدمير بابا عمرو. إنهم جبناء”. وذكر لي جدي أنه حفر حفرة في الحديقة خلف منزله وأنه سيختبئ بها عندما يأتي الجيش.

ولم نسمع مرة أخرى عن جدي، الذي كان اسمه الحقيقي علي عثمان، حتى علمنا بعد عدة أسابيع أنه اعتُقل في حلب. وقال ناشطون آخرون إنه عُذب وباح بعشرات الأسماء. وفي الشهر التالي، ظهر جدي في برنامج خاص غريب ومزعج على قناة الدنيا في مقابلة، أو “اعتراف” كما وصفه مقدم البرنامج، لمدة ساعتين. وفي تسلسل مريع للعناوين تتحرك الكاميرا عبر ممر معتم بينما يدوي صوت موسيقى درامية؟ يفتح باب زنزانة ليظهر وراءه جدي جالساً في الزاوية مطأطئ الرأس في بركة من الضوء الأزرق.

سأله المحقق “هل كان هناك مسلحين في المظاهرة؟” أجاب جدي “لم أر أحداً، فقط قوات الأمن. لقد سمعنا طلقات فركضنا. الشخص الذي كان بجانبي أصابته طلقة في مؤخرة رأسه”. “ومن الذي أطلق النار عليه في ظنك؟” “جاءت الطلقة من الخلف أي من جهة رجال الأمن”. “هل يعني ذلك بالضرورة – في رأيك- أن الأمن استهدفه؟” “ممكن، وممكن لا”. “إذن لا شيء يثبت ذلك؟” “لا، لا”. “هل يمكن للأمن أن يطلقوا النار بينما هم يريدون صالح المواطن؟” “بالطبع لا”.

ومضى الوقت ثقيلاً، لكن جدي لم يدن الثورة ولم يقم أيضاً بقذف الردود في وجه سائله بتحدٍ، بل كان أداؤه بارعاً وشجاعاً إذا ما أخذنا بالحسبان الضغط الهائل لحمله على قول ما كان يتوقع منه قوله. ومع ذلك ظل الجيش الحر غاضباً، ووصفه أحد القادة بالخائن. وكان رد الفعل هذا غير منصف لكن يمكننا توضيحه من خلال الحقيقة المتمثلة في أن الجيش السوري الحر كان ينظر في السابق لجدي على أنه “صحفيهم” ووظيفته في المركز الإعلامي في بابا عمرو بنشر الدعاية للانتفاضة المسلحة.

كان بعض المواطنين الصحفيين يرى نفسه بهذه الطريقة وأيضاً. فمعظمهم لجأ إلى إعداد التقارير الإخبارية لمساعدة الثورة. وكان بعضهم ناطقاً رسمياً -بالمعنى الحرفي للكلمة- باسم الجيش الحر والبعض منهم كان يحمل بحد ذاته سلاحاً. والناس، بمن فيهم المنضوين ضمن صفوف الجيش الحر، كانوا يتوقعون أن يكون إعلامهم إلى جانبهم. فكثير من، وربما معظم، محطات التلفزيون أو الصحف العربية التي يشاهدها السوري العادي كانت محازِبة بدرجة كبيرة. وكان رد فعل الناس تجاهها على هذا الأساس.

بعد ظهر يوم من أيام تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 في بابا عمرو، سمعنا صراخاً في الشارع. وكان عدد غفير من الناس يحيطون بسيارة. فقد دخلت الحي للتو سيارة فيها مراسل ومصور، وقد تم التعرف عليهما على أنهما من قناة المنار، وهي قناة شيعية موالية لحزب الله وبالتالي موالية للنظام السوري. وبابا عمرو، معقل الانتفاضة، كانت غالبيته من السنة كما هي حال الثورة نفسها. وكان المراسل قد حصل على مباركة الشيخ السني بالقدوم إلى بابا عمرو، لكن حساباته كانت خاطئة.

أما المراسل-وهو شيعي لبناني- فقد انطلق راكضاً بسرعة ووصل إلى حاجز تفتيش تابع للحكومة على بعد مائتي ياردة. وأما المصور الذي معه، وهو سني سوري، فقد تم الإمساك به وسحبه بخشونة. ووقع جدل بشأن ما الذي يجب فعله به. مضيفنا، أبو سفيان، وهو شخصية قيادية في بابا عمرو، فقد ثلاثة من أفراد أسرته في الانتفاضة وكان يشعر بسخط شديد، وصرخ “لقد فقدت أخي. أخي. لقد قتلوا أخي”.

وحاول رجل آخر تهدئته قائلاً “لا يمكننا إيذاؤه. فذلك ليس من ديننا”.

وأُخذ المصور لإلقاء نظرة على جثة ولد عمره 6 سنوات أُردي بالرصاص بينما كان يلعب عند عتبه البيت، وكان أقارب له من الذكور يقفون صامتين عند الجثة المسجاة على مقربة من المسجد والدموع تسيل على وجناتهم. وقال لنا مضيفنا أن المصور شعر بالصدمة وقال إنه كان مخطئاً بتأييده للنظام. وطلبوا منا أن نصور تصريحه لإثبات أنه لم يتعرض للأذى، لكنا رفضنا. وقد حاولوا استخدام المصور مقابل الإفراج عن سجناء، لكن ذلك لم ينجح، إلا أنه تم إطلاق سراحه تلك الليلة مقابل إعادة جثتين كما قيل لنا. وفي اليوم التالي ضحكنا عندما أعلن التلفزيون الرسمي أنه تم تحرير صحفيين مخطوفين من قناة المنار في “مداهمة نفذتها قوات خاصة” في حي بابا عمرو.

وتساءلت ما إذا كان سيُقتل إن لم نكن نحن موجدين هناك. موقف المقاتلين غير المعلن تجاه المراسلين يقول: إما أن تكون معنا أو ضدنا، وقد هز ضباط الجيش السوري الحر رؤوسهم بالموافقة عندما قلنا لهم إننا لسنا موجودين هناك من أجل الدعاية، لكن لم يكن هناك سوى قدر قليل من التفهم الحقيقي للعمل الصحفي الموضوعي. في البداية، كان ظن الثوار أن المراسلين الأجانب سيعملون على جلب الطائرات الغربية لضرب النظام كما حدث في ليبيا. وفي أواخر عام 2012، قالوا لنا إنه لا فائدة من مساعدة الصحفيين – باتوا يدركون أنهم وحيدون. ولكن، وعلى الرغم من شعورهم بالمرارة بشأن فشل العالم الخارجي في مساعدتهم، استمر المقاتلون والناشطون في الترحيب بنا في منازلهم وإطعامنا ونقلنا من مكان لآخر دون المرور بنقاط التفتيش.

اتهم التلفزيون الرسمي السوري الثوار بقتل جيل جاكييه، وهو أول مراسل غربي يُقتل في الحرب الأهلية في سوريا، حيث أصيب بقذيفة هاون أو قنبلة صاروخية الدفع في كانون الثاني/ يناير أثناء جولة نظمتها الحكومة إلى مدينة حمص. وكان الرجل في حي يسكنه علويون وعدد كبير من السنيين الموالين للنظام. لكن صحفيين سويسريين كانا معه يعتقدان أن المسألة كانت مدبرة وليست سوى هجوم شنته الحكومة وجعلته يبدو من عمل الثوار. وكانت زوجة جاكييه، كارولين بويرون، هناك أيضاً تقوم بمهمة لمجلة ‘باريس ماتش’، وقالت لي إن “كل شيء كان معداً- كان مثل مسرح. كان جيل والصحفيين الاثنا عشر الآخرين مستهدفين من قبل النظام ليظهروا للعالم أن هناك إرهابيين في سوريا”. ويحقق قاضٍ فرنسي حالياً في الحادثة.

ووجه أليكس تومسون من القناة الرابعة البريطانية اتهاماً آخر للثوار، إذ يعتقد تومسون أن مقاتلي الجيش الحر أرشدوا فريقه إلى طريق كانوا يعلمون أن قوات النظام ستطلق النار على أية سيارة تقترب من هناك. وكتب تومسون في مدونته يقول: “لقد أوقع الثوار بنا عن عمد كي يتم إطلاق النار علينا من الجيش السوري. فالصحفيين القتلى أمر يسيء لدمشق”. وقال تومسون إن الثوار الذين قابلهم لم يكونوا يثقون في كل من يأتي من دمشق بتأشيرة دخول رسمية. من ناحيتنا، سافرنا مع النشطاء أو المقاتلين من البداية وحتى النهاية، لكني لم أشعر أبداً بنفس الشعور الذي أحس به أليكس تومسون من أن الثوار قد يدفعوا بك إلى مصرعك لمجرد أن اللائمة قد تقع على للحكومة في قتلك. ومع ذلك كنا لا نزال نواجه المشكلات: أسئلة عدائية بشأن قصص، تبين فيما بعد، أن الثوار لم يروها فعلاً أو بشأن أعمال قام بها “صحفيو بي بي سي” علماً بأنه لم يكن هناك أي شخص من ‘بي بي سي’ موجوداً.

فقد بدأ متحدث رسمي باسم الجيش الحر في شمال لبنان، على سبيل المثال، يخبر الجماعات المسلحة داخل سوريا أنني جاسوس. فكيف عرف؟ قال: من مصدر داخل النظام؟ هل تحدث بنفسه مع هذا المخبر؟ كلا، آخرون فعلوا. وما الذي قيل بالضبط؟ لم يكن متأكداً. وقلنا ربما أنها كانت كذبة من النظام ليزعزع الثقة فينا. فهل فكر هو في ذلك؟ وبدأنا نشك أن ذلك كان بسبب ما أحدثته رسائل البريد الإلكتروني التي كتبها نير روزن، الصحفي والمعلق الأمريكي المثير للجدل. فمن بين آلاف رسائل البريد الإلكتروني التي كُشف النقاب عنها عندما قام ناشطون بقرصنة الحساب الخاص للرئيس بشار الأسد في شباط/ فبراير 2012 كانت هناك رسائل محولة من روزن. وكان روزن قد كتب لمسؤولين ليبلغهم أن المراسلين يتسللون إلى حمص. وقد فعل ذلك ليدعم طلبه للحصول على تأشيرة. وذكر اسمي، ولم يكن ذلك مفيداً. وافترضنا أن النظام عرف أننا كنا في حمص -فقد كنا قد بثثنا من هناك- ولكن يبدو أن الأسد نفسه لم يكن يعرف ذلك. وقد انتابنا القلق من أنه إذا ما اهتم شخصياً بالموضوع فإن المخابرات ستبدأ بالفعل بالبحث عنا.

أما روزن فقد دافع دفاعاً قوياً حيث كتب مقالات واستعان بنشطاء لينفي أنه كان أضحوكة أو جاسوساً للنظام. وقد ساورني الشك بأنه عندما رأى المتحدث الرسمي باسم الجيش الحر وآخرين اسمي وكلمة “جاسوس” في نفس المقالة، فإنهم قد فهموا الأمور بكل بساطة بالمقلوب. وقد واجه صحفيون آخرون مثل هذه التهم الواهية، وغالباً كنتيجة للارتباك من جانب الجيش الحر. وسأل مراسل مقاتلاً عندما أحاط الشك بزميل صحفي “ما الذي يجعلك تعتقد أنه جاسوس؟”، فأجاب المقاتل لأنه “سأل ما الأسلحة التي كنا نستخدمها”. ووجدت صحفية فرنسية نفسها موضوعاً لنقاش حاد في حمص. وعندما عادت إلى لبنان، قال لها ناشط لقد “ظنوا أنك جاسوسة وكانوا يتجادلون حول ما إذا كانوا سيعدمونك”.

قد يكون كل هذا نتاج 40 سنة من جنون الشك الذي رعته الدولة بشأن الأجانب، لاسيما الغربيين منهم، وحقيقة أن الجيش الحر ليس منظمة واحدة بل الاسم الرسمي لمئات من الميليشيات المحلية. وقد أتاحت الفوضى أيضاً للجماعات الجهادية بالانضمام إلى ميدان القتال وهذا بحد ذاته شكل تطوراً خطيراً بالنسبة للصحفيين الغربيين في سوريا. ففي تموز/ يوليو وجد المصور الفوتوغرافي البريطاني جون كانتلي وزميله الهولندي جيروين أورلمانز نفسيهما وقد دخلا معسكراً لجهاديين أجانب شمال سوريا. وكان في المعسكر 40 مقاتلاً من بنغلاديش وباكستان والشيشان وتركيا و10 إلى 15 شخصاً يتحدثون الإنجليزية بلكنات جنوبية. تم تعصيب عيني الصحفيين وتقييد يديهما وتعرضا للركلات والضغوط. وقال كانتلي إن بعضاً من أسوأ التعاملات جاءت من بريطانيين، فقد كانوا شباناً في أول تجربتهم الجهادية وكانوا “شديدي الانفعال” لحصولهم على رهائن غربيين، وكانوا ينادوننا “نصارى أنجاس” و “مُت يا كافر”. وقيل للصحفيين إن سكيناً يتم شحذه لقطع رأسيهما. وفر الرجلان لينجوا بحياتهما راكضين في السهل بعيدا عن المعسكر، فأطلق الجهاديون نيران الأسلحة الأوتوماتيكية باتجاههم فأُصيبا بجروح وتم جرهما إلى المعسكر.

تم تضميد جروحهما على عجل وتحضيرهما من أجل نقلهما إلى مجموعة “أشد خطورة” مرتبطة بتنظيم القاعدة. ولولا وصول الجيش الحر لإنقاذهما لكانا قد قُتلا، حسب كانتلي الذي قال إن “المضاعفات تتمثل في أنه كلما طال أمد هذا الأمر كلما أصبح أكثر تعقيداً. وكلما طال أمده كلما أصبح أشد خطورة بالنسبة لنا جميعاً”. لقد كانا محظوظين إذ لم ينضما إلى قائمة الذين قُتلوا وهم يغطون الحرب الأهلية في سوريا ومنهم بعض المراسلين الأجانب وعدد أكبر من الصحفيين المحليين. إن مخاطر جديدة بدأت تنضم إلى تلك التي كان يواجهها الصحفيون في البداية، سواء أكانت تلك المخاطر تتمثل بتواجد الجماعات الجهادية أو استخدام النظام للقصف الجوي. وبينما تمر الحرب في سوريا بشتائها الثاني فإن المخاطر تتضاعف بالنسبة للصحفيين.

بوول وود هو مراسل ‘بي بي سي’ في الشرق الأوسط المبعوث لتغطية أخبار سوريا. غطى بوول وود أكثر من اثني عشر نزاعاً منها أفغانستان والعراق وليبيا ودارفور والبلقان والشيشان.


المزيد
به
وتتوفر أيضا في
 



عرض الشرائح: سنة في صور


Exit mobile version