بقلم: جانين دي جيوفاني
لقيت ماري كولفين، المراسلة الآيرلندية الأمريكية، حتفها في الثاني والعشرين من فبراير/شباط 2011 في انفجار صاروخ في حي بابا عمرو في حمص بسوريا، وكان عمرها يناهز 58 عاماً.
استيقظت كولفين في ذاك الصباح البارد باكراً على هدير ضربات المدفعية. وكانت منحنية إلى الأسفل تحاول انتعال حذائها الموحل كي تتوجه الى الملجأ عندما أُصيبت. كنا صديقتين، ومواساتي الوحيدة هي أنها توفيت على الفور ولم تقارع الألم كما قيل لي.
كانت كولفين مثالاً لشخصية المراسل الأجنبي: تشرب كثيراً، وتدخن السجارة تلو الأخرى، وكانت جذابة وذكية، تزوجت ثلاث مرات، وكانت تشبه شخصية دوروثي باركر. كانت طموحةً ورؤوفة ومخلصة في عملها، ولا سيما في تغطية الوقائع على الأرض في سوريا.
التقينا قبل حوالي 20 عاماً بجانب آلة تصوير المستندات في مقر صحيفة ‘صنداي تايمز’ القديم في لندن، حيث عملنا – أمريكيتان مغتربتان ومولعتان بالشرق الأوسط. كانت تكبرني سناً، ولها اسمها في عالم الصحافة، وكانت أسطورةً يعود عملها إلى زمن الحرب العراقية الإيرانية. أمّا أنا فكنت قد بدأت للتو، وأكافح لأشق طريقي للخروج من قسم “استعراض الأخبار” إلى قسم التغطية الخارجية. (أرغمتهم في نهاية المطاف على إعطائي مهمةً صحفية في البوسنة، وبدأتُ مسيرتي كصحفية حرب منذ ذلك الحين.)
كان موت كولفين بمثابة هاتفٍ أيقظ الكثيرين في ميدان عملنا. كانت كولفين صحفيةً محترفة لآخر حياتها – قطعت الجبال الجورجية سيراً على الأقدام لتغطية الحرب الشيشانية (وضلَّت طريقها وتحتم إنقاذها بالمروحية)، وأُصيبت إصابةً بالغة في سري لانكا وفقدت إحدى عينيها. وأثناء الحرب في كوسوفو، خيَّمت مع جيش تحرير كوسوفو، ورفضت مغادرةَ مجمع الأمم المتحدة إبان أعمال العنف في تيمور الشرقية. كانت صديقةً شخصية للزعيم الليبي معمر القذافي ورئيسَ منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. ولم تكن تخشى الدفاع عمّا تؤمن به.
ولكن نهايتها كانت في سوريا، حيث أسدلت الستار عن حياة مهنية طويلة وشاقة. وبدا لي، ولغيري، أن سوريا أصبحت تجسد التهديدات التي تواجه صحفيي الحرب اليوم، وهي تهديدات لم يعهدها حتى المحترفون من أمثال كولفين. كانت كولفين دائماً ترى الفكاهة في الظروف الحالكة. فقد أخبرتني مازحةً ذات مرة عن حالها حين تقطعت بها السُبل في مدينة مصراتة الليبية إبان الحصار المفروض على ليبيا: “كما لو كنت في حِمية بلا خمر يعينني عليها!” وذلك حين اعتاشت على علب التونة، بعيداً عن زجاجات الفودكا التي تحبها. ولكن لمّا كنا نأتي على ذكر الشأن السوري، كنا ننظر إلى بعضنا في يأس ونقول: “كيف لنا أن نواصل عملنا؟” وفي الليلة التي سبقت تهريبها إلى حمص، أخبرتْ أصدقاء لها في لبنان بهواجسها ومخاوفها ازاء الذهاب إلى هناك. ومنذ ذلك الحين وبقيتُنا تناقش الدروس التي يمكن أن نستخلصها من حربٍ نالت من ماري كولفين.
نعى مجتمع الصحفيين كولفين وواصل تغطية الحرب، ولكن من الواضح أن شيئاً ما قد تغير. وكما كانت الحال عند مقتل المراسل الأسطوري رويترز كيرت شورك في سيراليون في يونيو/حزيران 2000 (على يد متمردي الجبهة الثورية المتحدة)، فقد بدا أنه إذا أمكن لهذا الصحفي المتمرس أن يُقتَل، فإن مَن دونه يمكن أن يُقتل كذلك. ولم تعد المسألة مسألة التحلي بالخبرة والجاهزية ورباطة الجأش.
شَهِد ميدان التغطية الإخبارية في سوريا في العامين التاليين لمقتل كولفين مزيداً من الرعب، حيث لقي 79 صحفياً على الأقل حتفهم هناك منذ اندلاع الحرب في العام 2011 بحسب لجنة حماية الصحفيين. إن انخفاض عدد الصحفيين الذين قضوا في سوريا سنوياً منذ العام 2012 يعكس انخفاض عدد الصحفيين العاملين هناك أكثر ممّا يعكس انحسار حدة الخطر.
الخطفُ هو هاجسٌ دائم، بات سائداً أيضاً. فقد اختفى أصدقاءٌ وزملاء، عادَ بعضهم، ولم يعد آخرون. “اختفى ستيف،” رسالةٌ وصلتني ذات صباح كئيب في أغسطس/آب 2013. وبعد عام، قُتل ستيفن سوتلوف بقطع رأسه أمام الكاميرا على يد قتلة الدولة الإسلامية، التي باتت مصدر خوف كبير لكل الصحفي. قضى ستيف عاماً في الأسر مع صحفيين آخرين وعاملين في منظمات إنسانية، بمن فيهم جيم فولي، وهو مراسلٌ محبوب قطعت داعش رأسَه أيضاً.
حدثت فظائع في ليبيا ولبنان والشيشان وإثيوبيا وبؤر نزاع أخرى، ولكن سوريا فرضت تحديات جديدة، وجذبت فصيلاً جديداً من الصحفيين الشباب بفضل انتشار وسائل الإعلام الرقمية والاجتماعية. وثمة تغيرٌ رئيسي آخر يتمثل في أننا، معشرَ الصحفيين، لا نحظى بثقة السكان المحليين هناك. فقد قالت لي المصورة الصحفية نيكول تونغ، التي عملت في بؤر نزاع كثيرة، إن “التغطية في سوريا تقتضي مجابهة مشكلات متعددة الأوجه، تتراوح بين القصف والقناصة والخطف على يد القوات الحكومية، والمتطرفين الإسلاميين، والمجرمين. إنه مكان يتعين على الصحفيين والناشطين السوريين فيه أن يعملوا في نزاع مفتوح يتسم بهول دماره واليأس الذي يبثه، ولم يعد أي طرفٍ فيه يؤمن في جدوى نقل الحقيقة.”
وفي ضوء كل ذلك، يتساءل صحفيو الحرب اليوم عن السُبل التي تمكِّنهم من مواصلة العمل وتسجيل شهاداتهم – إحدى العبارات التي كانت ترددها كولفين – بينما يحافظون على سلامتهم ويظلون خارج الأقبية المحصنة في حلب؟ كيف لنا أن نحافظ على سلامتنا ونحن ننقل الحقيقة؟
صديقي القديم وزميلي في صحيفة ‘تايمز أوف لندن’، أنتوني لويد، وهو ضابطٌ سابق في الجيش البريطاني ومراسلٌ متمرس، تعرض للضرب وإطلاق النار في العام 2014 بعد أن أمسك به الجهاديون في سوريا. خضتُ أنا وأنتوني تجارب كثيرة معاً، من فقدان الأصدقاء إلى المعاناة جراء معاملة محرري الأخبار. كانت إصاباته شنيعة حتى إنه أعاد التفكير في طريقته في العمل (رغم أنه كان في شمال العراق في آخر مرة سمعت منه، ممَّا يبرهن على أن الخطر مهما عظُم لا يثني المراسل المخلص عن أداء عمله). يعتقد لويد أن طبيعة التغطية الصحفية قد تغيرت في سوريا. ففي السابق، كما في الحرب البوسنية، حينما التقيت بأنتوني، كان بوسعنا إقامة علاقات بالسكان المحليين الذين كانوا يحموننا بطريقة أو بأخرى.
قال لي لويد: “يحتاج الصحفيون إلى نوع من القبول من شريحة من السكان المحليين حتى يقوموا بعملهم. ولفترة من الزمن، كانوا يحظون بذلك القبول في سوريا. حيث ظل معظم السوريين، ولا سيما في المناطق السنية، لِما يزيد على عامين يعتبرون الصحفيين الأجانب مؤيدين لهم وصنَّاع التغيير المحتمل الذي قد يخفف محنتهم.”
ثم أضاف: “ولكن مع مرور الوقت، وتنامي فظاعات الحرب وزيادة المعاناة، أدرك معظم السنة أن الغرب لن يتدخل لصالحهم بعد كل ما جرى. وبهذا الإدراك، لم يعد الكثيرون يعتبرون الصحفيين مؤيدين لهم بل صاروا يرون فيهم تجسيداً لأنانية الغرب، حيث يوثق الصحفيون آلاماً شديدة يعلمون أنها لن تُخفف أبداً. ومع تبدل هذا الإدراك جاء الغضب، وتنامت حوادث خطف الصحفيين والاعتداء عليهم.”
كتبتُ مقالاً في عام 2014 لمجلة ‘نيمان ريبورتس’ بجامعة هارفارد حاولت فيه أن أضع الخطوط العريضة لعملية قد يتبعها الصحفيون من أجل التكيف مع الوقائع الجديدة لصحافة النزاع، مع الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الإضافية للعمل الصحفي المناهض لداعش وخطر الاختطاف. واقترحت إمكانية وضع نظامٍ لاعتماد الصحفيين، وقدمت اقتراحي بحذر شديد إلى حد ما، لأنه موضوع خلافي غالباً ما يُغضبُ الصحفيين المستقلين. فحتى لو لم يتطلب نظام الاعتماد هذا أن يمتلك صحفيو الحرب مهمةً موكلةً إليهم وبوليصة تأمين، فإن بإمكانه، على الأقل، أن يوفر آليةً لمواكبة الصحفيين ومواقع عملهم. واقترحت كذلك إنشاء مكاتب صحفية حدودية، تتيح لنا أن ننسق المعدات والمساعدين والسائقين، وما شابه ذلك.
لا تروق إجراءات الاعتماد لمعظم الصحفيين، إذ يشعرون أنها تنم عن نخبوية. ونحن أيضاً نمقت كذلك نظام مضافرة الموارد (pool system) حيث تحشد المؤسسات الإعلامية قدراتها معاً لأداء مهمات صحفية مشتركة، والذي ينزِع إلى تقويض الإبداع وروح المنافسة. ولكن في سراييفو، تضافرَ بعض الصحفيين الأكثر قدرةً على المنافسة في العالم لإنشاء مجمع وكالة سراييفو، والذي أنقذ أرواحاً كثيرة في أسوأ أيام القصف، وأسفر أيضاً عن توثيق استثنائي لجرائم الحرب – وهو حقاً خير مثال يوضح السبب في كوننا صحفيي حرب. نحن نريد توثيق الحرب لنضمن محاسبة المسؤول عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ولكن كيف يمكننا أن نُعدَّ الجيل القادم من الصحفيين، أو حتى أنفسنا، لمواجهة التهديدات والتغيرات المتزايدة؟
أحد الخيارات بالنسبة للصحفيين الأقل الخبرة هو تدريبهم على البيئات العدائية، رغم أن الدورات من هذا القبيل تكون مكلفة في العادة وغير متساوية من حيث القيمة العملية. فقد التحقت شخصياً بأربع دورات تدريبية على البيئات العدائية، دفع ثمنها أرباب العمل لأنهم لم يستطيعوا شراء بوليصة تأمينية لي دون حصولي على الشهادة، بالإضافة إلى دورات أخرى أثناء عملي في الأمم المتحدة. معظم تلك الدورات كان مفيداً، ولكن بعضها كان مضيعةً للوقت.
يقوم جنودٌ سابقون في القوات الخاصة بتدريس دورات التدريب على التعامل مع البيئات المعادية، ويمكن لهذه الدورات أن تكون باهظة جداً، وشاقة، وفي بعض الحالات، مكررة. المراسلون يحتاجون إلى دورات تدريبية على الإسعافات الأولية، كتلك التي تقدمها منظمة ‘سيباستيان جونكر’ (مراسلون مدربون على إنقاذ زملائهم (RISC))، التي تدرب الصحفيين المستقلين على أساليب المعالجة الطبية في ساحة المعركة. ونظراً لتزايد المخاطر، فإن التدريبَ على الإسعافات الأولية هو أمرٌ بالغ الأهمية، ويحفز الناس على أخذ صحافة الحرب بجدية أكثر – من حيث الاحتفاظ بحقيبة طبية أثناء التنقل والسفر، ومعرفة ما ينبغي فعله إذا أصيب أحد كي لا ينزف المصاب حتى الموت حين تكون له فرصةٌ في النجاة. ومن وجهة نظري، فإن التأمين ضروري مهما كان الصحفي المستقل مفتقراً إلى المال. فأهمية التأمين لا تبرز فقط في حال التعرض لإطلاق نار أو إصابة بالغة بل عند مواجهة أي نوع من المصائب مثل حوادث السيارات، وهو أمر يحدث كثيراً في مناطق الحرب. التأمين مفيدٌ أيضاً للرعاية اللاحقة في حال تعرضك لإصابة.
برونو جيرودون، أحد كبار المراسلين الموظفين في القناة الفرنسية الثانية، ووالد ابني، أُصيب برصاصة قناص في فكه يوم سقَطَ القذافي في طرابلس. ولو أن الرصاصة دنت قيد أُنملة وأصابته في الوريد، لكان ابني اليوم يتيماً. قامت المنظمة التي يعمل فيها برونو بإجلائه عن ليبيا عن طريق الحدود التونسية في غضون يوم واحد، واستمرت متابعته الصحية لأكثر من عام. ولأنه فرنسي، حصل برونو على رعاية صحية حكومية ممتازة. ولكن ماذا ستفعل لو لم تتسن لك رعاية صحية جيدة، أو حتى أي رعاية صحية، وأُصبت في مكان مثل سوريا؟ عليك أن تحرص على امتلاك الدعم اللازم.
دفعتني مشاهدتي لإصابة برونو ورحلة شفائه أثناء عملي كصحفية مستقلة (أعمل الآن موظفةً في مجلة ‘نيوزويك’) إلى التفكير في تغطيتي لسوريا وكيف سأستمر فيها. المسألة مسألة استراتيجية. فتغطية الحرب من دمشق ليست خياراً متاحاً للكثير من المراسلين – لأن الحصول على تأشيرة دخول أمرٌ في غاية الصعوبة، وعادةً ما تكون التأشيرات مخصصة للمؤسسات الكبيرة التي حافظت تماماً على فصل تغطيتها للنظام/الثوار. أمّا معظم الصحفيين فعليهم الاستمرار في عبور الحدود بطريقة غير مشروعة من الشمال أو العمل من المناطق الحدودية.
ومع ذلك فإن التأمين والتدريب على الإسعافات الأولية يتعاملان مع النتائج، ولا يتصديان لأصل المشكلة. ولا تزال هناك فجوة في الخبرة والمعرفة بشأن تغطية النزاعات، برزت أهميتها أكثر من ذي قبل بفضل التغيرات الحاصلة حالياً.
أتصور في اقتراحي بإقامة مراكز صحفية على حدود مناطق النزاع وسيلةً تمكِّن الصحفيين من تبادل المعارف على نحو أفضل، بما في ذلك معرفة مَن يدخلون ومن يخرجون من الصحفيين، وتوفير مركز لتبادل المعلومات حول أمور من قبيل التأمين والتدريب والمعدات. ويمكن لمركز كهذا أن يوظِّف خبيراً أمنياً بدوام كامل لتقديم المشورة للصحفيين المستقلين الذين لا يملكون وسيلةً للحصول على خبرة الصحفيين المتمرسين. ويمكن أيضاً توفير خبراء في الأمن الرقمي. ويمكن أن يكون هناك نظامٌ لاستئجار “أجهزة تتبع” لتعقب الصحفيين الذين يختفون.
لقد طرحت هذه الفكرة كوسيلة ممكنة لإعداد أنفسنا على نحو أفضل للوقائع المتغيرة على صعيد تغطية النزاع، ومنذ ذلك الحين وأنا أتحدث إلى الناس على المستويات كافة وأستمع إليهم في محاولة للخروج بوسيلة نواصل من خلالها تغطية الحرب السورية – بكل ما فيها من رعب – حتى توثَّق للأبد. وهذا أمرٌ ضروري.
ولكن الأمر لا يقتصر على الحرب السورية، التي لن تكون الأخيرة التي تحمل هذه الأهوال الجديدة. فطريقتنا في الاستجابة للتغيرات هناك سوف تملي علينا كيف نغطي الحروب من الآن فصاعداً.
لقد مضت أكثر من 20 سنة منذ التقيت ماري كولفين بجانب آلة التصوير في لندن، ومنذ ذلك الحين مررت بأكثر من عشرة حروب، وفقدت ما يفوق هذا العدد من الأصدقاء الصحفيين والعاملين في المجال الإنساني الذين أحببتهم واعتمدت عليهم. وأنا لا أريد أن أفقد المزيد. ولا أريد المزيد من تلك المكالمات الهاتفية أو رسائل البريد الإلكتروني عند الفجر تخبرني أن أحدنا قد لقي حتفه.
لقد غيرت الحرب في سوريا نظرتنا إلى التغطية الصحفية تغييراً كبيراً. وولَّت أيام إرسال الصحفيين كالفرسان إلى ساحة المعركة. علينا أن نفكر قبل المهمات وأثناء القيام بها وبعد الفراغ منها. وقد حان الوقت أن نبدأ التفكير على المدى البعيد كمجتمع تجمعه أهدافٌ مشتركة.
جانين دي جيوفاني هي محررة قسم الشرق الأوسط في مجلة ‘نيوزويك’، وهي زميلة في مركز دارت للصدمات النفسية بجامعة كولومبيا، ولها كتاب سيصدر قريباً بعنوان “سبعة أيام في سوريا” (W.W. Norton/Bloomsbury)