جبل الإفلات من العقاب يجثم على صدور صحفيي كردستان

قد تبدو كردستان العراق هادئة عند مقارنتها بكثير من مناطق الشرق الأوسط الأخرى، ولكن كلما اشتعلت جذوة التوتر السياسي الداخلي في هذا الإقليم، كلما حدقت الأخطار بوسائل الإعلام فيه. وفي ظل حالة الإفلات من العقاب عن اعتداءات تتم بحق الصحافة، ومنها القتل والإحراق المتعمد للمقرات، يرى الصحفيون أن عليهم ممارسة رقابة ذاتية عند تناول موضوعات مثل الدين وانعدام العدالة الاجتماعية والفساد المرتبط بمسؤولين متنفذين. تقرير خاص للجنة حماية الصحفيين من إعداد نامو عبدالله

جنازة الصحفي الكردي كاوه كرمياني، الذي قُتل في ديسمبر/كانون الأول 2013. (وكالة الأنباء الفرنسية/ شوان محمد)
جنازة الصحفي الكردي كاوه كرمياني، الذي قُتل في ديسمبر/كانون الأول 2013. (وكالة الأنباء الفرنسية/ شوان محمد)

تاريخ النشر22 أبريل / نيسان 2014

السليمانية

“يا ابن الكلب، إذا أصدرت تلك المجلة غداً، فسوف أدفن رأسك في قبر أبيك الكلب”.

المجلة المعنية هي مجلة ‘رايل’، وهي مطبوعة شهرية مستقلة تصدر في كردستان.

للمزيد حول هذا التقرير
توصيات لجنة حماية الصحفيين
بلغات أخرى
English
نسخة مطبوعة
English
العربية
کوردی

أما الشخص المنادى بـ “ابن الكلب” فهو رئيس تحرير ‘رايل’، كاوه كرمياني الذي يبلغ من العمر 32 عاماً، وكان كاوه قد نشر عدة تقارير زعم فيها وجود فساد في صفوف السياسيين الأكراد، خاصة أولئك المنتمين منهم للحزب السياسي القوي؛ أي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.

وأما المتحدث، بحسب تسجيل للمكالمة الهاتفية المنشورة على موقع يوتيوب في يوليو/ تموز 2012، فهو محمود سنغاوي، وهو عضو في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وجنرال في الجيش.

بعد ثمانية عشر شهراً من تلك المكالمة، قُتل كرمياني، حيث أُطلق عليه الرصاص أمام منزله بتاريخ 5 ديسمبر/ كانون الأول 2013 في مدينة كالار، الواقعة إلى الجنوب من مدينة السليمانية.

كان سنغاوي، وفقاً لتقارير الأنباء، هو المشتبه به الأول، حيث تم اعتقاله بتهمة القتل في يناير/ كانون الثاني 2014، إلا أنه أُفرج عنه بسرعة لعدم وجود أدلة. واحتفظ سنغاوي ببراءته؛ إذ أوقفت السلطات عضواً في الحزب من مرتبة عادية واعترف هذا بارتكاب الجريمة المنسوبة إليه. إلا أن عائلة كرمياني تقول إنه من المستحيل لمواطن عادي أن يكون قد نفذ الهجوم لوحده من غير مساعدة وإن المجرم الحقيقي أو العقل المدبر لا يزال حراً طليقاً.

ولم ينكر سنغاوي صحة المكالمة الهاتفية التي استخدم فيها شتيمة “يا ابن الكلب” وعبارات بذيئة لتهديد كرمياني لأن المجلة -على حد قوله- كانت قد نشرت مقالة مُحرجة مع صورة له في عدد سابق.

وعلى إثر مقتل كرمياني، أعرب عدد من الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان عن شكهم في أن يُحل لغز جريمة القتل وأن يتم جلب العقل المدبر للمثول أمام العدالة. ففي 20 ديسمبر/ كانون الأول 2013 حمل متظاهرون في مختلف أنحاء كردستان لافتات كُتب عليها “ليس القاتل فقط. من يقف وراء القاتل؟” و “كلنا نعرف القاتل”.

ووجه الشاعر الكردي المشهور عبدالله باشيو في بيان له انتقادات شديدة للحكومة الإقليمية الكردية، وقال فيه إن “كاوه [كرمياني] استُشهد في بلد لا يوجد فيه نظام حوكمة ولا مؤسسات ولا محاكم ولا دستور ولا قوانين. لهذا السبب ينبغي لنا ألا ننتظر محاكمة المجرمين الحقيقيين”.

وأمام حشد من الصحفيين ومواطنين أكراد آخرين تجمعوا أمام منزل كرمياني في ديسمبر/ كانون الأول 2013، صاحت شيرين أمين، زوجة كرمياني، وهي تبكي “إن من فعل ذلك هم مسؤولون رفيعو المستوى من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني”. وقالت “إنني أتوسل إلى كل واحد منكم، يا معشر الإعلاميين، بألا تقبلوا بهذا الظلم. لقد كان كاوه أخاً لكم أيضاً”. وقد وضعت زوجة كرمياني مولودهما الأول بعد 17 يوماً فقط من مقتله.

عدم إنفاذ القانون يؤدي إلى الرقابة الذاتية

يضم إقليم كردستان العراق، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 5 ملايين نسمة، ثلاث محافظات عراقية رئيسية (أربيل ودهوك والسليمانية)، وله حدود مع كل من إيران وتركيا وسوريا. ولهذه المنطقة علمُها الخاص ونشيدها الوطني، كما أن حكومة إقليم كردستان تمارس سيطرة شبه كاملة شؤون الإقليم الداخلية والخارجية. يتقاسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني سلطة الحكم في الإقليم منذ عام 2003، على الرغم من أن حزباً ثالثاً، هو حزب غوران (التغيير) أحدث هزة سياسية بسبب العديد الكبير من الأصوات التي اجتذبها.

ظلت كردستان، وإلى حد كبير، بمنأى عن العنف الذي اجتاح العراق في فترة ما بعد الحرب. (رويترز/ فالح خيبر)
ظلت كردستان، وإلى حد كبير، بمنأى عن العنف الذي اجتاح العراق في فترة ما بعد الحرب. (رويترز/ فالح خيبر)

وفي الوقت الذي عصفت فيه السيارات المفخخة والهجمات الانتحارية والتطرف الديني بالعراق في فترة ما بعد الحرب، ظلت المنطقة الكردية بمنأى عن مثل هذا العنف إلى حد كبير. وعلى الصعيد الاقتصادي، يشهد الإقليم ازدهاراً بفضل احتياطياته الضخمة من النفط والغاز الطبيعي. ومع ذلك، وتحت السطح الذي يبدو هادئاً عند مقارنته بكثير من بقاع الشرق الأوسط، إلا أن التوترات السياسية تشتد حدتها فيه في بعض الأحيان، وهذه هي الأوقات التي يكون فيها الإعلام عرضة للمخاطر أكثر من غيرها. يقول الصحفيون المحليون إن المحسوبية والفساد منتشران في كردستان؛ ويتهم الكثير من الأكراد قادتهم باستغلال النفط لتحقيق الثراء لأنفسهم بدلاً من بناء ديمقراطية حية واقتصاد للجميع. وفي المدن الصغيرة، مثل كالار وحلبجة، يشتكي الناس من نقص الخدمات الأساسية كالطرق المعبدة والوظائف والكهرباء.

كان مقتل كرمياني أحدث الاعتداءات البارزة على الصحفيين في المنطقة الكردية، لكن هذه الجريمة لم تكن حالة معزولة. ففي غضون السنوات القليلة الماضية، سجل ‘مركز مترو للدفاع عن حقوق الصحفيين’، وهو مركز غير ربحي يتخذ من السليمانية مقراً له، وبالتفصيل نحو 700 حالة اعتداء على الصحفيين، بما في ذلك التهديد والمضايقة والضرب والاعتقال والترهيب وإحراق الممتلكات. وقد مرَّ معظم هذه الاعتداءات دون عقاب.

وبلغ عدد الاعتداءات ذروته في عام 2011، عندما ألهم الربيع العربي الأكراد فخرج الآلاف منهم إلى الشوارع في احتجاجات امتدت شهوراً ضد حكم رأى هؤلاء أن قيادته استبدادية فاسدة. وفي الصدامات التي نجمت عن ذلك، قتُل 10 أشخاص من بينهم عنصران من قوات الأمن، بحسب مسؤولين في المستشفيات ومن الحكومة، فيما أصيب ما لا يقل عن أربعة صحفيين جراء إطلاق النار عليهم. وقد وثّق مركز مترو في تلك السنة عدداً غير مسبوق من الاعتداءات بلغ 359 اعتداءً استهدفت صحفيين ومؤسسات إعلامية.

أما في العامين 2012 و2013، فقد كان عدد الاعتداءات التي وثّقها ‘مركز مترو’ أقل من ذلك بكثير، حيث بلغت 132 و 193 اعتداءً على التوالي.

ويزعم المسؤولون الحكوميون أن الانخفاض في عدد الاعتداءات مؤشر على عمق ترسخ الديمقراطية وتزايد مستوى التسامح مع المعارضة. وذكر وكيل وزارة الداخلية، جلال كريم، للجنة حماية الصحفيين أن الوزارة دعت خبراء إعلاميين غربيين لإعطاء دورات تدريبية لمسؤولي الأمن حول كيفية التعامل مع وسائل الإعلام بطريقة أكثر تحضراً. وقال إن التنوع الإعلامي في كردستان دليل على أن حكومة الإقليم تشجع حرية الصحافة.

صحيح أن هناك مئات الوسائل الإعلامية المطبوعة وعبر الإنترنت والإذاعية في كردستان، لكن الصحف اليومية تخضع لسيطرة الحزبين الحاكمين، وغالباً ما تنشر هذه الصحف مقابلات طويلة مع قيادات سياسية إلى جانب صورة متملقة لهم. وتُصدر معظم الصحف المستقلة أعداداً مطبوعة فقط أسبوعياً أو مرة كل أسبوعين. كما أن الصحافة المتلفزة مُهيمن عليها هي الأخرى منذ وقت طويل من قبل النخبة الحاكمة، غير أن هذا الاحتكار انتهى في عام 2011 عندما تأسست شبكة راديو وتلفزيون ‘ناليا’ (إن آر تي) كأول شبكة تلفزيونية خاصة. وتحتفظ جميع وسائل الإعلام بمواقع إلكترونية نشطة وحسابات في وسائط التواصل الاجتماعي، ونظراً لأن شبكة الإنترنت في كردستان تتسم بالقوة والسرعة ومعقولية السعر إلى حد كبير -خاصة عند مقارنتها ببقية مناطق العراق- يعتمد معظم الناس على تلقي الأخبار بوسائل رقمية. ويشيع في المنطقة استخدام موقعي فيسبوك وتويتر، كما أن شبكة الإنترنت تتيح للمواطنين الدخول في مناظرات ونقاشات أعمق مما تتيحه وسائل الإعلام التقليدية.

ثمة وسائل إعلام عديدة في كردستان، لكن معظمها يخضع لسيطرة الحزبين الحاكمين. (رويترز)
ثمة وسائل إعلام عديدة في كردستان، لكن معظمها يخضع لسيطرة الحزبين الحاكمين. (رويترز)

وقال هيمن ليهوني، رئيس تحرير النسخة الإلكترونية من شبكة روداو الإخبارية، إنه “لا يمكن أبداً للصحف أن تلعب الدور الذي تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي”، وأضاف بأن 85 بالمائة من جمهور قراء روداو على الإنترنت هم من فيسبوك وتويتر. وأوضح بأن هذه الوسائط “تعمل على تغيير مواقف الأحزاب السياسية بشأن كل شيء تقريباً. فاليوم، يفكر السياسيون قبل الإدلاء بأي تصريح برد الفعل الذي قد يحدثه هذا التصريح في أوساط التواصل الاجتماعي”.

يندر أن تُنشر في المنطقة أخبار استقصائية تحقق في الفساد بعمق، حتى في وسائل الإعلام المستقلة أو المعارضة. ويقول كثير من الصحفيين إن الرقابة الذاتية ضرورية عند التطرق لموضوعات كالدين وانعدام العدالة الاجتماعية والفساد المرتبط بمسؤولين ذوي نفوذ كبير أو بعائلاتهم أو بزعماء العشائر.

وأوضح توانا عثمان، مدير محطة ‘ناليا’ التلفزيونية المستقلة (NRT)، أنه بمقدور المراسلين الكتابة عن الفساد والمحسوبية وكافة أنواع الأنشطة غير المشروعة، ولكن فقط بعبارات عامة. وقال “يمكنك القول مثلاً إن [دائرة حكومية معينة] غارقة في الفساد. وهذا لا بأس به، ولكنك إن أقدمت على القول إن رئيس تلك الدائرة فاسد، عندها تبدأ المشاكل”. ونتيجة لذلك، يقول عثمان، تفتقر تقارير الأنباء للحيثيات وينعدم تأثيرها.

لكن كاوه كارمياني شذ عن القاعدة في هذا المضمار، كما يقول زملاؤه. ففي واحدة من أكثر مناطق كردستان قبلية وريفية – ويطلق عليها اسم مناسب تماماً هو كرميان، أي المنطقة الساخنة، بسبب صيفها القائظ- كان كرمياني يُظهر شجاعة نادرة. فلم تتهيب مجلته، ‘رايل’، من اتهام مسؤولين بعينهم بالفساد حتى لو كان هؤلاء بنفوذ جنرالات في الجيش مثل سنغاوي. ويقول زملاء لكرمياني إنه كان يستمتع باستغلال مهاراته الكتابية في تحدي السلطة.

وقالت دانا أسد، وهي محررة في أسبوعية ‘أويني’، وهي مجلة كان يشارك كرمياني بكتابات فيها أيضاً، إنه “كان هناك شيء ما جعل كاوه [كرمياني] متميزاً عن زملائه؛ فبينما كان الصحفيون الآخرون يتحدثون بعمومية عن الفساد، كان هو يقول لنا من هو الفاسد بالتحديد. لقد كان يذكرهم بالاسم، وهذا -كما تعلمون- خط أحمر هنا”.

من الناحية النظرية، يتمتع صحفيو الفضائح السياسية، مثل كرمياني، بحماية القانون في كردستان؛ إذ يحظر قانون الصحافة في المنطقة، والمعروف بالقانون رقم 35 لسنة 2007، سجن الصحفيين أو مضايقتهم أو إساءة معاملتهم أو إغلاق المطبوعات. وقد أيّد الكثير من الصحفيين العاملين في وسائل إعلامية مستقلة أو معارضة هذا القانون، الذي مثل انتقالاً مهماً من القانون في ظل نظام صدام حسين الدكتاتوري.

ويعتبر هذا القانون تقدمياً مقارنة بالقوانين المعمول بها في دول شرق أوسطية أخرى، غير أنه لا يرقى إلى مستوى المعايير الدولية بسبب الصياغة المبهمة للمحظورات كأعمال “بث بذور الكراهية وتنمية الأحقاد” أو “الإساءة للمعتقدات الدينية” أو “الإساءة والتعرض للرموز الدينية” أو إفشاء تفاصيل “الحياة الشخصية للأفراد”. ويرى الصحفيون إنه يُمكن تفسير هذه الصياغة المبهمة بصورة تعسفية واستغلالها من قبل النخبة الحاكمة لإخماد صوت المعارضين.

وذكر أوات علي، مدير ‘مركز مترو’، للجنة حماية الصحفيين أنه تُقام مئات الدعاوى القضائية على صحفيين كل سنة ويتم اتهامهم فيها بتشويه السمعة والتجسس وازدراء الدين و “الانحراف عن قيم المجتمع”. وفي حين أنه من المفترض، بموجب قانون الصحافة، عدم سجن أي صحفي بسبب عمله، تعرض كثير من الصحفيين للاعتقال لأيام أو لفترة أطول لحين محاكمتهم. وغالباً ما يتم الإفراج عنهم ولكن بعد كفالات بمئات الدولارات.

وفي أواسط عام 2013، وافق البرلمان على قانون آخر كفل للعموم حق الوصول إلى المعلومات الحكومية، على غرار قانون حرية المعلومات في الولايات المتحدة. لكن الصحفيين المحليين يقولون إن المشكلة لا تمكن في إمكانية الوصول [للمعلومات] ولا في الحماية القانونية- بل في القصور في إنفاذ القانون.

وذكر رحمن غريب، المنسق العام ‘لمركز مترو’، للجنة حماية الصحفيين أن “كردستان منطقة لا يجري فيها إنفاذ القانون، والمحاكم ليست مستقلة”.

ويقول الناقدون إن المنظومتين القضائية والأمنية في المنطقة هما من صنع الحزبين الحاكمين منذ وقت طويل، أي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. ولكل حزب من الحزبين ميليشيا مستقلة خاصة به تقوم بدور قوات الأمن والشرطة في المناطق التي تقع ضمن نفوذها، وتستجيب هذه الميليشيات لأوامر قادة الحزب وليس لأوامر وزير الداخلية أو وزير الدفاع. تعتبر السليمانية من معاقل حزب الاتحاد الكردستاني بينما يسيطر الحزب الديمقراطي على مدينتي دهوك وأربيل. ويقول النقاد إن الحزبين هما من يعين القضاة، حيث يكون ذلك على أساس الولاء وليس الكفاءة، وإنه بسبب هذه العوامل يستحيل في غالبية الأحيان توقيف مسؤولين كبار في الحزب أو الحكومة مشتبه في ارتكابهم جرائم.

وقد سعت لجنة حماية الصحفيين إلى الحصول على رد من الحكومة بشأن هذه الانتقادات ونتائج أخرى توصل إليها هذا التقرير. غير أن مكتب الرئيس مسعود برزاني لم يرد على أسئلة لجنة حماية الصحفيين التي أُرسلت بواسطة البريد الإلكتروني.

وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر/أيلول 2013، كانت نتائج الحزب الثالث، أي حزب غوران، طيبة بصورة فاجأت المراقبين، حيث احتل الحزب المرتبة الثانية من حيث مستوى الشعبية متقدما على حزب الاتحاد الوطني. ولكن رغم أن صعود هذا الحزب يقلب معادلة تقاسم السلطة بين حزب الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي، إلا أنه من المتوقع أن يظل حزب الاتحاد الوطني لاعباً قوياً بسبب جناحه العسكري القوي الذي يهيمن على محافظة السليمانية.

ومع تصاعد التوتر السياسي خلال سباق الانتخابات البرلمانية في سبتمبر/أيلول 2013، حدثت زيادة ملحوظة في الاعتداءات على الصحفيين. وكان عدد الاعتداءات السنوي قد هبط في عام 2012، بعد أن كان قد تصاعد في عام 2011 في غمرة حراك الربيع العربي.

رجل يمشي بجوار ملصق انتخابي لحزب غوران في سبتمبر/أيلول 2013. (وكالة الأنباء الفرنسية/ أحمد الربيعي)
رجل يمشي بجوار ملصق انتخابي لحزب غوران في سبتمبر/أيلول 2013. (وكالة الأنباء الفرنسية/ أحمد الربيعي)

وفي حديث للجنة حماية الصحفيين، قال الصحفي المعروف ومدير ‘شركة أويني للطباعة والنشر’ التي تصدر عنها صحيفة ‘أويني’ الأسبوعية المستقلة، أسوس هاردي “عندما يمر هذا البلد بأزمة أو وضع سياسي حساس من أي نوع، فإن القوانين والديمقراطية وحقوق الإنسان لا تعني شيئاً”. ويجب النظر إلى عدد الاعتداءات على الصحفيين كل سنة في سياق الأمور، حسب هاردي الذي تعرض هو نفسه للضرب في أغسطس/ آب من عام 2011 على يد معتدٍ مجهول الهوية بأداة معدنية، كان نتيجتها 32 غرزة. (ولم يُعاقب سوى من زُعم أنه السائق في عملية الاعتداء، وعلى الرغم من إفادة السائق بضلوع شخصين آخرين في الهجوم، إلا أنه لم توجه التهمة لأي شخص غير السائق).

وبعد ستة أشهر من الانتخابات، لا تزال كردستان تعيش حالة من انسداد الأفق السياسي في ظل عدم وجود حكومة.

جريمة قتل لم يُحل لغزها

من أكثر الاعتداءات رمزية على الصحافة الكردستانية هو الاعتداء الذي استهدف الصحفي والطالب الجامعي زرادشت عثمان، 23 عاما، الذي كان يتم السنة النهائية من دراسة اللغة الإنجليزية عندما اختُطف في 4 مايو/ أيار 2010 عند بوابة جامعة صلاح الدين في أربيل. وكان عثمان كاتباً مستقلاً أسهم بكتابات في صحيفة ‘أشتنامي’ المستقلة والمواقع الإخبارية ‘سبي’ (Sbei)، و ‘كردستان بوست’، و ‘أويني’، و ‘هولاتي’، و ‘لفين برس’.

محتج يتظاهر ضد مقتل زرادشت عثمان (يوتيوب/فيلم براد)
محتج يتظاهر ضد مقتل زرادشت عثمان (يوتيوب/فيلم براد)

كتب عثمان مقالات قاسية عن الفساد الذي تورط فيه مسؤولون حكوميون كبار والحزبان الرئيسيان في المنطقة. وجاء موته في وقت شهدت فيه المنطقة تصاعداً في حدة التوتر السياسي. وكان حزب غوران حديث التأسيس، وهو حزب يصنف نفسه كحزب إصلاحي، قد أبلى بلاً حسناً في انتخابات يوليو/ تموز من عام 2009، حيث فاز بحوالي ربع مقاعد برلمان المنطقة البالغ عددها 111 مقعداً. وقد شاهد الناس تغطية تلفزيونية غير مسبوقة لنواب المعارضة يتحدثون بصوت عالٍ في البرلمان عن الفساد وصفقات النفط المشبوهة.

وكان من أشد كتاباته نقدية مقالة هزلية عن عائلة الرئيس برزاني، زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بعنوان “أنا واقع في حب بنت برزاني”. وفي هذه المقالة التي نُشرت في ديسمبر/ كانون الأول 2009 تحت اسم مستعار في موقع ‘كردستان بوست’، هاجم عثمان الفارق الآخذ في الاتساع في مستويات الدخل وتساءل عما إذا كان سيودع أصوله الفقيرة عن طريق الزواج بإحدى بنات برزاني الثلاث.

وذكر باشدار عثمان، شقيق زرادشت عثمان، للجنة حماية الصحفيين أن شقيقه تلقى تهديدات عدة من مجهولين عن طريق الهاتف وبواسطة رسائل نصية بعد نشر المقال. وقد أخذت مخاوف عثمان بالتزايد حتى أنه تنبأ في مقالته الأخيرة بمقتله. وكتب يقول “لست خائفاً من الموت بالتعذيب”، وأضاف “إنني هنا أنتظر موعدي مع قتلتي، وإنني أدعو من أجل ميتة تكون على أشد قدر ممكن من المأساوية، كي تتوافق وحياتي المأساوية”.

وجرى اختطاف عثمان خلال ساعة الازدحام الصباحية في عاصمة كردستان، حيث أجبر على الصعود إلى مركبة، بحسب شهود. وعلى الرغم من نقاط التفتيش على طريق أربيل-الموصل، تقول قوات الأمن إن عثمان نُقل بنجاح إلى الموصل، وهي مدينة أخرى واقعة شمال العراق، حيث عُثر عليه مقتولاً على أحد الطرقات بعد يومين بطلقين ناريين في الرأس.

وأصدر خمسة وسبعون صحفياً ومحرراً ومثقفاً كردياً بياناً في مايو/ أيار 2010، حمَّلوا فيه حكومة الإقليم المسؤولية عن مقتل عثمان. وجاء في البيان أن “هذا الفعل يفوق قدرة شخص واحد أو مجموعة صغيرة من الأشخاص. ونحن نعتقد أن حكومة إقليم كردستان وقواتها الأمنية هما المسؤول الأول والأخير، وأنه يُفترض فيهما بذل كل جهد من أجل العثور على هذه اليد الآثمة”.

وفي 10 مايو/ أيار 2010، انطلقت مسيرة من موقع اختطاف عثمان ضمت المئات من طلاب الجامعة الذين حاولوا اقتحام البرلمان هاتفين “أيادي مَن تلطخت بدماء زرادشت؟” وحاول رئيس البرلمان كمال الكركوكي، وهو عضو في الحزب الديمقراطي الكردي، مخاطبة جمع المحتجين، لكنهم رموه بزجاجات الماء الفارغة والأحذية إلى أن أجبروه على مغادرة المنصة.

مسعود البرزاني عيّن لجنة لم يعلن عن أسماء أعضائها للكشف عن مرتكبي جريمة قتل زرادشت عثمان. (رويترز/ روبين سبريتش)
مسعود البرزاني عيّن لجنة لم يعلن عن أسماء أعضائها للكشف عن مرتكبي جريمة قتل زرادشت عثمان. (رويترز/ روبين سبريتش)

وبعد فترة قصيرة من الجريمة، قال برزاني إنه عيَّن لجنة للتحقيق في الجريمة لكنه لم يحدد من هم أعضاء اللجنة. ولا يتوفر سوى قدر ضئيل من المعلومات عما إذا كانت اللجنة قد اجتمعت يوماً أو عما إذا كانت موجودة بالفعل.

إلا أن قوات الأمن، وبعد خمسة أشهر من الجريمة، عرضت على شاشة التلفزيون اعترافاً مسجلاً لرجل يُدعى هشام محمود إسماعيل، قال فيه إنه سائق المركبة التي حملت عثمان إلى الموصل. وذكر إسماعيل، الذي عرف بنفسه كعضو في جماعة أنصار الإسلام، وهي جماعة مرتبطة بالقاعدة، أن عثمان قُتل لأنه فشل في تنفيذ عمل ما غير محدد للجماعة الإسلامية. غير أن أنصار الإسلام نفت في بيان نشرته وسائل الإعلام المحلية ضلوعها في مقتله. وذكر أفراد عائلة عثمان للمراسلين أن قوات الأمن الحكومية هددتهم بعد أن قالوا رأيهم بصراحة معترضين على فكرة أن عثمان كان يرتبط بصلات بجماعة إرهابية. ولا يزال إسماعيل في السجن، بحسب قوات الأمن.

وقد انتقدت لجنة حماية الصحفيين وغيرها من جماعات حقوق الإنسان الدولية التحقيق بسبب افتقاره للمصداقية والشفافية، فيما كان التحقيق سبباً لإثارة غضب آخرين. ووصف بختيار علي، الروائي العراقي الكردي البارز، في مقال صحفي نتيجة التحقيق بأنها “كذبة صفيقة”. أما زملاء عثمان فقد قالوا إنهم عرفوه رجلاً يسارياً وليبرالياً وعلمانياً، وليس متعصباً دينياً.

وذكر باشدار عثمان للجنة حماية الصحفيين أنه تحدث بصراحة حول تورط الحكومة في مقتل أخيه وأنه يخشى على حياته هو أيضاً وبالتالي فر من كردستان إلى أوروبا، وأنه عاد مؤخراً فقط لزيارة كردستان. وفي مقابلة أجرتها لجنة حماية الصحفيين معه على الهاتف، قال إنه لا يزال يعتقد أن تحقيق الحكومة في مقتل شقيقه مفبرك، وإن “كل شيء من الألف إلى الياء كان كذباً واختلاقاً”، على حد تعبيره، وأضاف بأن “مقتل [زرادشت] غيّر حياتنا إلى الأبد. وقد غير أشياء كثيرة في حياة شعب كردستان أيضاً، وباتت قضية زرادشت اليوم قضية حرية”. وقال باشدار أيضاً إن تحقيقاً نزيهاً بقيادة أعضاء من منظمات دولية هو وحده القادر على تحديد هوية “القاتل الحقيقي”.

إحراق متعمد في اعتداء صارخ

بعد مقتل عثمان بعدة أشهر، وصلت احتجاجات الربيع العربي التي اجتاحت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى كردستان العراق. ففي 17 فبراير/ شباط من عام 2011، شرع آلاف من الأكراد في السليمانية في التظاهر مطالبين بوضع حد للفساد والحكم المستبد لقادة المنطقة.

وفي ذلك الوقت، أسس عدد من الصحفيين البارزين المستقلين قناة ‘ناليا’ (إن آر تي)، وهي أول شبكة تلفزة خاصة في المنطقة الكردية. وبدأت القناة بثها بتغطية قوية للمظاهرات حيث نقلت صوراً حية لأشخاص يهتفون بشعارات تشكك بشرعية برزاني وجلال الطالباني، زعيم الحزب الديمقراطي ثاني أقوى الأحزاب ويشغل منصب الرئيس العراقي وهو منصب فخري. (أُصيب الطالباني بجلطة في أواخر عام 2012 ولا يزال موجوداً خارج البلاد منذ ذلك الحين، حسب تقارير الأنباء).

مواطنون أكراد يلوحون برايات تحمل صور الرئيس العراقي وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، جلال الطالباني، أثناء الانتخابات التي جرت في سبتمبر/أيلول 2013. (وكالة الأنباء الفرنسية/ أحمد الربيعي)
مواطنون أكراد يلوحون برايات تحمل صور الرئيس العراقي وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، جلال الطالباني، أثناء الانتخابات التي جرت في سبتمبر/أيلول 2013. (وكالة الأنباء الفرنسية/ أحمد الربيعي)

وبعد فترة وجيزة من انطلاقها، تلقت المحطة التلفزيونية مكالمة هاتفية تحمل رسالة مفزعة، حسب توانا عثمان، مدير شبكة ‘إن آر تي’ (لا تربطه علاقة قربى بالصحافي المجني عليه زرادشت عثمان). وفحوى الرسالة: “إما أن تتوقفوا عن بث تغطية للاحتجاجات أو تدفعون الثمن”. وقد أخذت المحطة بالخيار الثاني؛ ففي إحدى ليالي الشتاء الحالكة في فبراير/ شباط 2011، وبعد بضعة أيام من إطلاق المحطة، اقتحم العشرات من الرجال المسلحين مقر المحطة وأشعلوا النار في المبنى برمته. وكانت الاستوديوهات فارغة عندئذٍ ولم يُصب أحد بأذى.

ومضت ثلاث سنوات على ذلك دون توقيف أي مشتبه بهم. وكان برهم صالح، رئيس وزراء كردستان آنذاك، قد أعلن في مارس/ آذار 2011 أمام البرلمان أن محكمة السليمانية أصدرت مذكرات توقيف بحق “ثمانية أو تسعة أشخاص” متهمين بلعب دور ما في الاعتداء على قناة ‘ناليا’. وقال صالح إن “اثنين منهم معروفان. ينتمي أحدهما إلى دائرة لمكافحة الإرهاب بينما ينتمي الآخر لوزارة البشمركة (الدفاع)”. ووعد صالح، دون الإفصاح عن المزيد من التفاصيل، بفعل كل ما هو ممكن لجلب الجناة إلى العدالة.

وبعد نحو أسبوع تقريباً، مثل الرجلان اللذان أشار إليهما صالح أمام المحكمة، حسب محطة ‘ناليا‘. وذكرت المحطة أن أحد المشتبه فيهم هو رئيس العمليات الاستخبارية في وزارة البشمركة بينما يشغل الآخر منصب رئيس شعبة الاستخبارات في دائرة مكافحة الإرهاب، وهي وحدة عسكرية خاصة لمكافحة الإرهاب. ولم تذكر المحطة اسمي المشتبه فيهما.

وأثناء المحاكمة، نفى المسؤولان الضلوع في الاعتداء، ولم يتم سجن أي منهما. وذكرت المحطة أن قوات الأمن والحراس الشخصيين للمشتبه فيهما تجمعوا أمام مبنى المحكمة وداخله. وقالت المحطة، دون أن تسمي مصادرها، إن أحد المشتبه فيهما أتى بإيصالات للمحكمة يثبت بواسطتها أنه لم يكن في السليمانية عند وقوع الاعتداء على المحطة، فيما دفع الآخر بحجة “أنا سمين للغاية” مشيراً إلى أن الهجمة التي تمت بأسلوب الكوماندوز تتطلب لياقة بدنية. إلا أن المسؤولية البدنية عن عملية إشعال النيران لم تكن تمثل القضية الأساسية المطلوب حل لغزها.

أُبقيت هوية الرجلين سرية لكونهما يعملان في دوائر الاستخبارات، وبالتالي لم تتمكن لجنة حماية الصحفيين من التواصل مع أي من هذين المسؤوليّن لأخذ تعليق.

أسفر عدم التمكن من فك رموز قضية محطة ‘ناليا’ عن حالة من الإحباط بشأن كفاءة دوائر القضاء وإنفاذ القانون في الإقليم، خاصة في صفوف الصحفيين. ويبقى الغموض يحيط بالكيفية التي يمكن بها لشخص ما الإفلات بعد إحراق محطة تلفزيون بأكملها في حي تقطنه عليّة القوم وهو من أكثر الأحياء السكنية أماناً وحراسة في السليمانية. يقع مقر المحطة في القرية الألمانية، وهي عبارة عن مجمع سكني حديث البناء ومحاط بأسوار، مناسب لسكنى المغتربين ميسوري الحال.

في أغسطس/ آب 2013، زار باحث من لجنة حماية الصحفيين المحطة التلفزيونية للحصول على معلومات جديدة. وتبين أن القناة لا تزال موجودة كوسيلة إعلامية قوية، حيث تم تجديد المقر، ويبدو الصحفيون عازمون على القيام بواجبهم. وقد عُلقت على الجدران الداخلية لمكاتبها الجديدة صور لأنقاض ما كان يوماً مقر عمل العاملين فيها.

لكن توانا عثمان أعرب للجنة حماية الصحفيين عن شعور بخيبة أمل تامة من منظومة الحكم كلها في كردستان.

وقال عثمان إن “أولئك الذين أحرقوا المحطة ينتمون لجماعة أكبر من الحكومة”، مضيفاً بأنه كان لدى أي محكمة مستقلة دليل كافٍ للتوصل إلى نتيجة حاسمة. وتابع قائلاً إنه “لو كانت المحكمة جادة في الأمر- ولو أنها كانت مستقلة أصلاً- لكان بمقدورنا أن نعرف بيسر من هم المجرمون”.

ولما سألت لجنة حماية الصحفيين جلال كريم، وكيل وزارة الداخلية، عن السبب في أن المعتدين على محطة ‘ناليا’ لا زالوا طليقين، تضمن رده إقراراً ضمنياً بأن هناك بعض الأشخاص فوق القانون في كردستان، وقال إن “[عثمان] يعلم من الذي أحرقها. كما أن المحكمة تعرف من الذي أحرقها”. وألمح كريم إلى أن المهاجمين الفعليين ربما كانوا قد غادروا العراق إلى بلد أجنبي.

وقال المنسق العام ‘لمركز مترو’، رحمن غريب، إنه يعتقد أن منظومة القضاء في كردستان غير مستقلة “فجميع القضاة معينون على أساس ولائهم للأحزاب الحاكمة”.

من جانبه، عبّر رواند معصوم، وهو قاضٍ يشغل منصباً مسؤولاً في وزارة العدل، عن رأي مخالف لذلك، وقال “نحن جميعاً كان لنا مواقعنا في الأحزاب من قبل. ولكن المحاكم أماكن لها قدسيتها، وعندما ندخلها فإننا نتجرد من انتماءاتنا الحزبية، ونتصرف باستقلالية”.

ونظراً لعدم أرجحية فك رموز القضية في المحاكم، حوّلت المحطة تركيزها من العثور على الجناة إلى السعي للحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقت بها. وقد وافق البرلمان على قرار خاص في 23 فبراير/ شباط 2011 يأمر فيه الحكومة بتعويض المحطة وغيرها من المؤسسات الإعلامية التي لحق بها أضرار “وفقاً لأحكام القانون”. واستناداً إلى هذا القرار، حكمت محكمة السليمانية بأن الحكومة ملزمة بتعويض المحطة بمبلغ 15 مليون دولار، حسب فرهاد حاتم، مدعي عام السليمانية.

وذكر عثمان للجنة حماية الصحفيين أن المحطة لم تتلقى التعويض بعد، لكنه متفائل بأن القناة ستحصل على المال قريباً. وأشار إلى أن المسألة العالقة هنا ليست مسألة ما إذا كان القناة ستحصل على التعويض عن خسائرها بل ما هو مقدار هذا التعويض.

وكان لرغبة الحكومة في تعويض المحطة مفعول عكسي من حيث أنه عزز الاعتقاد الشعبي الواسع بأنه لا بد وأن أشخاصاً من أصحاب النفوذ -سواء مسؤولين في الحزب أو الحكومة- هم من نفذ الهجوم على الشبكة التلفزيونية، وأنه لو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت الحكومة مستعدة لدفع مثل هذا المبلغ الضخم من المال لشركة خاصة.

ولم يأت النقد من أوساط صحفية فقط، فقد طعن مدعي عام السليمانية، فرهاد حاتم، في الحكم في محكمة السليمانية دافعاً بحجة أنه لا أساس قانونياً لمثل هذا التعويض.

وذكر في حديث للجنة حماية الصحفيين “لا أريد أن أخفي هذا عنكم، ثمة جانب سياسي في هذه [القضية]”، وأضاف: “سلوا أنفسكم السؤال التالي: هل توجد حكومة في العالم تدفع تعويضاً عن جريمة لم ترتكبها؟”

أدى الاعتداء الذي استهدف محطة 'ناليا' التفلزيونية في فبراير/ شباط 2011 إلى تدمير مقرها. (يوتيوب/ برس تي في)
أدى الاعتداء الذي استهدف محطة ‘ناليا’ التفلزيونية في فبراير/ شباط 2011 إلى تدمير مقرها. (يوتيوب/ برس تي في)

ويقول عثمان إن محطة ‘ناليا’ تحاول أحياناً تغطية أخبار حساسة، لكنها لم تتمكن من ذلك في حالة واحدة على الأقل، هي: الذكرى السنوية الأولى للاعتداء على القناة.

فعلى صعيد إحياء هذه الذكرى، قامت المحطة بإنتاج فيلم وثائقي طويل من المقرر أن يتم بثه بعنوان: “من أحرق إن آر تي؟”.

تم بث دعاية عن الفيلم الوثائقي لأربعة أيام، وعلى الرغم من المكالمات الهاتفية من مجهولين والتي تحذر القناة من بث الفيلم إلا أن القناة بثته حسب الموعد المقرر. وفي غضون دقائق من بدء البث، اختفت إشارة القناة عن الشاشات في منازل المشاهدين. وقال عثمان إن القناة تلقت إنذاراً آخر عبر الهاتف من متحدث مجهول قال فيه: “المرة الماضية أحرقنا [محطة] التلفزيون فقط. هذه المرة، سنحرقها وأنتم جميعاً بداخلها”. ولم يتم بث الفيلم الوثائقي مطلقاً.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2013، وبينما كان المعتدون على المحطة لا يزالون طليقين أحرارا، أصبحت المحطة من جديد موضوعاً للأخبار. إذ تم إطلاق النار على مالكها، شاسوار عبد الواحد، في السليمانية وأُصيب بجراح. وصحيح أنه نجا من الموت، لكن المعتدين ارتكبوا جريمتهم وأفلتوا من العقاب.

حالة مضايقة قانونية

لم تكن كل الانتهاكات بحق الإعلام في كردستان بصفاقة الإحراق المتعمد للمقرات أو القتل؛ فإقامة الدعاوى القضائية والاعتقالات التعسفية هي آليات فعالة أيضاً لتهديد الصحفيين ومضايقتهم وترهيبهم بهدف تكميم أفواههم.

في 20 أبريل/ نيسان 2012، اعتُقل شروان شرواني، رئيس تحرير مجلة ‘باشور’، وهي مجلة ناقدة يقع مقرها بمحافظة دهوك، دون مذكرة توقيف وظل محتجزاً لعدة أيام بسبب مقالتين زعم فيهما وجود فساد في القطاع العام. وسمح لشرواني بالخروج بكفالة مقدارها مليون دينار عراقي (حوالي 858 دولار أمريكي حسب سعر الصرف آنذاك). وصرح شرواني للمراسلين بأنه اعتُقل لأسباب سياسية. كما أنه انتقص من قدر المنظومة القضائية في كردستان وشبهها “بحكم قراقوش” أو “حكم الطاغية” -مما حدا بالمحكمة إلى معاقبته بغرامة مالية قدرها 200,000 دينار عراقي (حوالي 150 دولار) جراء الإساءة إلى مؤسسة عامة، حسب قوله.

وقد حوكم شرواني عدة مرات بسبب عمله كصحفي.

في عام 2013، جرت محاكمة شرواني بتهمة تشويه السمعة في دعوى رفعها عليه باهزاد برزاني، أبن شقيق الرئيس، وذلك فيما يتصل بمقالة نُشرت في مجلة ‘باشور’ وزعمت أن القوات المسلحة الموالية لابن الأخ تدير معتقلاً يُحتجز فيه العشرات من السجناء السياسيين. وذكر شرواني للجنة حماية الصحفيين أن “هذا سجن غير شرعي، تعرّض فيه العشرات من الأشخاص للتعذيب حتى الموت أو أنهم انتحروا”.

وقال شرواني إنه علم بموجود مذكرة اعتقال بحقه فقط عندما أبلغه جيرانه أن الشرطة اقتحمت منزله في غيابه في ديسمبر/ كانون الأول 2013. من جانبه، نفى باهزاد برزاني المزاعم بأنه أرسل قوات لمداهمة بيت الصحفي وقال إن كل ما فعلته الشرطة هو تنفيذ أمر المحكمة بالقبض عليه. وذكر محامي برزاني، سردار رقيب نجم، إن مذكرة التوقيف صدرت في يونيو/ حزيران 2013 لكن الشرطة لم تتمكن من توقيف شرواني بسبب صعوبة العثور عليه.

وفي مقابلة مع لجنة حماية الصحفيين في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2013، أكد باهزاد برزاني أنه أقام بالفعل دعوى تشويه السمعة، وقال إن شرواني “نشر بعض المواد عني في مجلته لا أساس لها. وقد اتهمني في المقالة بقتل أناس أبرياء. عليه أن يأتي إلى المحكمة ويثبت أني قتلت أناساً. وأن كذب فيجب محاسبته على ذلك، وإن صدق، فإنه سينبغي على المحكمة أن تتعامل معي كقاتل”.

في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2013، مثل شرواني أمام المحكمة للإدلاء بشهادته ومن ثم تم الإفراج عنه مرة أخرى بكفالة قدرها مليون دينار عراقي. وتم تأجيل الجلسة إلى إشعار آخر. من ناحيته، يتمسك شرواني بروايته ويقول إن لديه ثلاثة شهود تعرضوا للتعذيب في السجن المزعوم، لكنهم خائفون من التعرض للانتقام بسبب شهادتهم إلا إذا تمت حماية هويتهم من قبل المحكمة.

وقال شرواني للجنة حماية الصحفيين إنه لم يعد يعتبر منزله مكاناً آمناً لأنه قد يتعرض للمداهمة في أي وقت من قبل رجال الأمن أو الشرطة الموالين لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. لذلك، “أنا دائماً موجود في مكان ما بين السليمانية وأربيل ودهوك”، حسب قوله.

نامو عبدالله صحفي كردي عراقي مقيم في واشنطن العاصمة، درس الصحافة بجامعة كولومبيا. وهو مدير مكتب قناة ‘روداو’ بواشنطن، وهي قناة إخبارية تبث على مدار الساعة في كردستان وتقدم أسبوعياً برنامجاً حوارياً سياسياً باللغة الإنجليزية بعنوان “إنسايد أمريكا” (داخل أمريكا). وظهرت كتابات له في مؤسسات إعلامية دولية مثل الجزيرة الإنجليزية ورويترز وصحيفة نيويورك تايمز.

ملاحظة من المحرر: لقد تم تصحيح الفقرة 17 من هذا التقرير لتعكس أن معظم الصحف المستقلة تنشر فقط على أساس أسبوعي أو كل أسبوعين ، وليس كل الصحف المستقلة، كما ذكر سابقا.

توصيات اللجنة

إلى الحكومة الإقليمية الكردية:

  • إجراء تحقيقات شاملة بشأن الاعتداءات التي لم تُحل ضد الصحفيين، بما في ذلك جريمتا قتل زرادشت عثمان وكاوه كرمياني والاعتداء على محطة ‘ناليا’ التلفزيونية والإذاعية، ومحاسبة جميع المسؤولين عن هذه الجرائم إلى أقصى حدود القانون. وضمان تمكين عائلات الصحفيين القتلى والمختفين من السعي لمعرفة الحقيقة حول مصير أقاربهم ودون خشية من الانتقام.
  • الكشف العلني عن النتائج التي توصلت إليها اللجنة التي عينها الرئيس للتحقيق في مقتل زرادشت عثمان، وعن نتائج أي تحقيق رسمي بشأن الاعتداءات على الصحفيين.
  • توفير التدريب والتثقيف للمسؤولين في الأجهزة القضائية والأمنية من أجل ضمان عدم احتجاز أي صحفي بصفة مخالفة للقانون بسبب عمله. وإصدار شجب علني لحالات الاحتجاز غير المشروع ومحاسبة المسؤولين عنها.
  • القيام بخطوات لتعديل قانون الصحافة بالتشاور مع الصحفيين المحليين، بهدف إزالة المواد الغامضة الصياغة والقابلة لإساءة الاستخدام والملاحقات القضائية المسيَسة.

إلى قادة الأحزاب السياسية الكردية:

  • التصريح علناً بأن أحزابكم تشجع الحوار المفتوح والنقد ولا تتسامح مع العنف أو أية تصرفات أخرى تهدف إلى ترهيب الصحافة، بما في ذلك من قبل قوات الأمن. والعمل بصفة فاعلة من أجل تثقيف مؤيدي الأحزاب بشأن الحماية التي يضمنها القانون للصحفيين.

إلى المجتمع الدولي:

  • ينبغي على منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وبموجب خطة عمل الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب، العمل مع الحكومة الإقليمية الكردية لتطوير وتحسين التشريعات والآليات لحماية الصحفيين وضمان حرية التعبير والمعلومات.
  • ينبغي على جماعات المجتمع المدني العمل مع الحكومة الإقليمية الكردية لتعزيز سيادة القانون من خلال البرامج التدريبية وإقامة مؤسسات حكومية قوية ومستقلة.
  • ينبغي على الشركاء الثنائيين ومتعددي الأطراف أن يدرجوا موضوع حرية الصحافة أثناء المفاوضات بشأن التجارة والاستثمار مع الحكومة الأقليمية الكردية.